محتويات
شبه جزيرة القرم
إنّ الفتوحات الإسلاميّة في زمن الخلافة العثمانيّة امتدت لتصل إلى جميع قارّات العالم، فكانت الكثير من الدول والبلدان تعيش تحت راية الإسلام، ومن هذه المناطق منطقة نسمع بها كثيراً في الآونة الأخيرة، شبه جزيرة القرم، فما قصة هذه الجزيرة؟ وأين تقع؟ وما تاريخها مع الإسلام؟ ولما هذا الصراع بين القطبين عليها؟ كل ذلك سنتناوله وأكثر في هذا المقال بإذن الله.
القرم على الخارطة الجغرافيّة
تعتبر القرم من أكثر المناطق التي شهدت صراعات كبيرة عليها منذ الحروب القديمة، وذلك لأهميّتها الجغرافية والتاريخيّة، فهي تقع على شواطئ البحر الأسود، الذي يحدّها من الجنوب ومن الغرب، ويحدّها من الشرق بحر آزوف الذي يقع بينها وبين روسيا، وتطلّ على مضيق (كيرتش) الذي يربط البحر الأسود ببحر آزوف، أمّا من جهة الشمال فتحدّها أوكرانيا التي ترتبط بها عن طريق شريط من اليابسة، لا يتجاوز ثمانية كيلومترات، أمّا عن مساحتها فتبلغ أكثر من 26.000 كيلومتر مربع.
التعداد السكاني لجزيرة القرم
أمّا عن عدد السكان في شبه الجزيرة، فأصبح يتجاوز المليوني نسمة تقريباً، وهم ينحدرون من قوميّات كثيرة، جلّهم من الروس، والأوكرانيّون، والتتار، والسكان الذين يتبعون للقوميّة الروسيّة هم غالبية السكان الذين يشكّلون 58.5% من السكّان، ويليهم الأوكرانيون حيث يبلغون 24.3% من السكّان، ثم تتار القرم، الذين يبلغون 12.1% من عدد السكّان، وهناك أقليّات أخرى مثل الأرمن، واليهود، واليونانيين، وتجدر الإشارة إلى أنّ قبل عقود قليلة من الزمن كان التتار المسلمون يشكّلون غالبيّة السكان، فقد كانوا يبلغون 35.5% من السكّان، ويليهم الروس حيث كانوا يبلغون 33.11% من السكّان.
عودة إلى التاريخ
وصل الإسلام إلى جزيرة القرم عن طريق التتار المسلمين، في القرن الثامن الهجري، وأصبحوا ينشرون الإسلام في أرجاء الجزيرة، فجذبوا الإغريق والإيطاليين إلى الإسلام، وهكذا أصبحت جزيرة القرم، غالبيّتها سكان مسلمين، ونالت الجزيرة حريّتها وأصبحت دولة للتتار المسلمين في عهد السلطان محمد كيراي، وقد كان اسمها سابقاً (آق مسجد) وتعني المسجد الأبيض بلغة التتار. امّا كلمة (القرم) فهي كلمة تركيّة تعني الحصن، أو القلعة، وهكذا أصبحت القرم دولة للتتار المسلمين، بل إن روسيا كانت تدفع الجزية للتتار في عهد السلطان محمد كيراي.
استمرّت محاولات الروس لغزو القرم، فأصبحوا يشنون الهجمات على مناطق معيّنة على أطراف الجزيرة، ولكنّ الدولة العثمانية كانت تهبّ لنجدة التتار، واستمر هذا الحال قرابة قرنٍ من الزمان، وما أن ضعفت الدولة العثمانية، حتى تمكّن الروس من غزو القرم، وذلك عام 1783 ميلادي، في عهد الامبراطورة كاترين الثانية، حيث قاموا بغزو شبه جزيرة القرم وطرد سكّانها التتار منها، ومن الأمور التي قام الروس بفعلها آنذاك:
- قاموا بطرد نصف مليون نسمة من المسلمين.
- قاموا بسن قوانين تحرّم وتمنع الدعوة إلى الإسلام.
قاموا بشتى وسائل الاضطهاد الديني لمسلمي القرم.
وهكذا ظلّ المسلمون في شبه جزيرة القرم يعانون الأمرّين، فذاقوا كلّ أنواع الويلات، إلى أن صدر قانون حريّة التعبد، فقام التتار بالجهر بالدعوة الإسلاميّة مرةً أخرى، بعد أن كانوا يتعبّدون سرّاً.
فهذا هو التاريخ الذي لا يمكن لأحدٍ أن يخفيه.
شبه جزيرة القرم وأوكرانيا
لقد بدأت معاناة المسلمين التتار في القرم منذ ضعف الدولة العثمانيّة، ومروراً بالحربين العالميّتين، وزادت معاناتهم بعد الحرب العالميّة الثانية في عهد ستالين الذي هجّر غالبية المسلمين التتار إلى اوزباكستان وغيرها من الدول، وأغلق مساجد المسلمين في القرم، وفي عهد خروتشوف _وهو زعيم سوفييتي من أصل أوكراني_ تمّ ضم جزيرة القرم إلى أوكرانيا، واعتبرها هديّة إلى وطنه الأصلي، ولكنّ هذا الأمر لم يطبّق فعليّاً إلّا بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، وهكذا انضمّت شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا.
أمّا بالنسبة للتتار، فقد بدأوا بالعودة إلى شبه جزيرة القرم بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي.
الأهمّية الاستراتيجيّة لشبه جزيرة القرم
إن هذه البقعة من العالم تمتاز بمميّزات استراتيجية كبيرة، فالصراع الراهن الذي نشهده على هذه المنطقة، ما هو إلّا لبسط السيطرة على مناطق أخرى تعدّ مهمة لجميع الأطراف، فشبه جزيرة القرم، تشرف على مضيق يربط البحر الأسود ببحر آزوف، الأمر الذي جعل روسيا تصرّ اصراراً غريباً على ضم القرم للسيطرة الروسيّة، فامتلاك القرم يعني السيطرة على البحر الأسود، وعلى المضيق الذي يربط بين البحرين، الأسود وبحر آزوف، إضافة إلى أن هناك قاعدة بحرية روسيّة في القرم، وهذه القاعدة تستطيع في تواجدها في منطقة القرم السيطرة على البحر الأسود، ومنه إلى البحر المتوسط، فهذه أحد أهمّ أطماع روسيا في القرم، بمعنى آخر فأهمّ الأطماع الروسيّة في منطقة القرم هو بسط نفوذ على المنطقة والشرق الأوسط.
أمّا شبه جزيرة القرم نفسها، فهي غنيّة بالثروات الطبيعيّة، وهي محط أطماع الكثيرين، حيث أنّها تمتلك العديد من الثروات الطبيعيّة كالبترول والغاز والفحم الحجري والحديد والرصاص، إضافةً إلى الثروات الزراعيّة التي تمتلكها شبه جزيرة القرم نظراً للمناخ المعتدل لها، فكل ذلك يجعل من المنطقة محطّاً لأطماع الدول.
الأزمة الرّاهنة في شبه جزيرة القرم
احتلّت شبه جزيرة القرم جميع وسائل الإعلام في الأشهر القليلة الماضية، حيث أنّه قامت ثورة أوكرانيّة أسفرت عن إطاحة الرئيس الأوكراني (فيكتور يانوكوفيتش) الذي كان مقرّباً من روسيا، ثم بعد ذلك قامت العديد من التظاهرات التي تطالب باستقلال القرم عن أوكرانيا، وكما هو معلوم فأوكرانيا بشكل عام والقرم بشكل خاص تحتوي على العديد من القوميّات، ففيها من يعتبرون أنفسهم روس، ويعتبرون اللغة الروسيّة هي اللغة الأمّ، وغيرهم من يتكلمون الأوكرانيّة ويرغبون في انضمام أوكرانيا للاتّحاد الأوروبي، فكان هناك توتّر بين هذه الأطراف، ممّا أدّى إلى توتّر شديد بين روسيا من جهة، وأوكرانيا والمعسكر الغربي من جهة أخرى.
وتمّ اجراء استفتاء شعبي أسفر عن ضم القرم إلى روسيا، وكانت نتيجة الاستفتاء 95% من سكان القرم يؤيّدون الانضمام إلى روسيا.
ختاماً
في الختام نودّ أن نلفت الانتباه إلى أنّ أزمة شبه جزيرة القرم، قد تصل إلى حرب باردة ثانية، فهي في توتّر مستمر، ولا شكّ أنّ أطماع الشرق، وأطماع الغرب، إن تضاربت فلا يوجد ما يمنع من عودة التوتّر في العالم بأسره.
وإن جزيرة القرم وبعد ما انضمامها إلى روسيا، أصبحت تعاني من حصار اقتصادي شبيهٍ بحصار قطاع غزة، ولكن بصورة أقل تأثيراً عليها، فهناك غلاء في المعيشة، وتضييق على المسافرين منها وإليها.
ونودّ أن نلفت النظر أيضاً إلى أنّ هناك مجموعة ليست بالقليلة من الطلّاب الذين يدرسون في جزيرة القرم، وهم من مختلف دول العالم، وهم يعانون من هذا الحصار الخانق الذي تفرضه الولايات المتّحدة وحلفاؤها، فما مصير هؤلاء الطلّاب؟
وأخيراً يجب أن نوجّه كلمةً لكل ضمير مسلم، لكلّ قائد مسلم، إنّ المسلمين يضطهدون في كلّ بلاد العالم، في فلسطين، في بورما، وقبل ذلك في شبه جزيرة القرم، فأين النخوة؟ أين غيرة المسلمين على إخوانهم؟
لابدّ للإسلام أن يعود مجده، ولابدّ للمسلمين أن يفيقوا من سباتهم العميق، فيجب علينا نحن المسلمين أن نعلم تاريخنا، وتاريخ حضارتنا، هذا وبالله التوفيق، وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آلهِ وصحبه ومن سار على دربه وبارك وسلّم.