محتويات
علم السّند وتدوين السّنة
بعد أنْ انتقل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلى الرّفيق الأعلى كان صحابته الكرام يروي بعضهم عن بعض ما سمعوه منه -عليه السلام-، ومن بعدهم كان التابعون يروون ما سمعوه عن الصحابة من حديث النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، ومع بدايات ظهور الانقسامات والفرق والمذاهب المبتدعة إبان مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان لا بدّ من ضبط مسألة النقل في الحديث؛ فبدأ العلماء من الصحابة والتابعين بتحرّي ما يسمعوه من أحاديث نبوية، فلا يقبلوها حتى يعرفوا طريقها وتطمئن قلوبهم، وظهر حينها التثبّت بالإسناد، حيث كانوا يقولون: سمّوا لنا رجالكم، ولا يُخفى أنّ الإسناد ميزةٌ من مزايا الأمة الإسلامية، حيث انفردت بها عن باقي الأمم، وبالإسناد يتمكّن طالب الحديث من التّثبت من طريق الحديث عبر معرفة الرّواة؛ فيقف على صحته أو ضعفه، ولذا يعدّ علم الإسناد من أهم العلوم التي حُفظت بها السّنة من الدّس والوضع، وأخذ علم السّند مكانةً عظيمةً عند العلماء؛ حتى عدّوه سلاح المؤمن في وجه من يبغي شرّاً أو زللاً في حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، ويكشف اهتمام السّلف الصالح بعلم الإسناد عن أهمية السنّة النبوية ومكانتها في التّشريع الإسلامي، ونتيجةً لما ناله علم السّند من اهتمامٍ بالغٍ وعنايةٍ فائقةٍ، فقد دُونت كتب الحديث منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري، وأطلق عليها اسم المسانيد، وهو اسم يُظهر الاهتمام الواضح بمسألة الإسناد، حتى غدت هذه المسانيد عمدةَ ما يُرجع إليه من علماء الحديث الذين خلفوهم في تدوين السّنة النبوية.[١]
واستمرت العناية بالسّنة المطهرة بشكلٍ متسارعٍ، حتى إذا جاء القرن الثالث كان علم الحديث قد بدأ يتشكّل بعلمٍ مستقلٍ، له فنونه وأصوله وعلومه، مثل: علم الحديث الصحيح، وعلم المرسل، وعلم الأسماء والكُنى، وهكذا، وكان الإمام البخاري قد رأى أنْ تصنّف الأحاديث على غير طريقة المسانيد، بل تبعاً لموضوعاتها بهدف تسهيل الوصول إليها، وتبعه في هذا المنهج كثيرٌ من المصنّفين في الحديث النبوي،[٢] غير أنّ الإمام البخاري كان له تميّزٌ وتفرّدٌ عن غيره في مسائل كثيرة؛ فمن هو الإمام البخاري، وكيف كانت نشأته، وما الظروف التي كوّنت شخصيته العلمية الفريدة، وماذا قدّم في سبيل خدمة الدّين ونشر علوم الشريعة؟
الإمام البخاري
يعدّ الإمام البخاري واحداً من أهمّ شيوخ الحديث، حيث انتهت إليه رئاسة الحديث في زمانه، وقد بلغ التصنيف في الحديث القمة بفضل جهوده، وأكرمه الله -تعالى- بكتابه الجامع الصحيح لأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد تلقّته الأمة بالقبول، وبلغت شهرته الآفاق، حتى غدا أصحّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، وفيما يأتي وقفاتٌ عاجلةٌ على أهمّ المحطات التي مرّ بها الإمام البخاري:
موله ونشأته
وُلد محمد بن إسماعيل البخاري لأبوين صالحين كريمين في مدينة بخارى، التي كانت تعدّ آنذاك مركزاً علمياً نشطاً في الفقه والحديث، وكان مولده في شهر شوال لمئةٍ وأربعٍ وتسعين خلت من الهجرة، وقد توفي والده وهو صغير السّن؛ فنشأ يتيماً، وتوّلته أمّه بالرّعاية والاهتمام، وما أنْ أكرمه الله -تعالى- بحفظ القرآن الكريم حتى بدا ينتظم في حلقات أهل الحديث؛ فأحبّ علم الحديث، ومالت نفسه إليه، ولمّا كان ذا ملكة قوية في الحفظ فما بلغ سنّ السادسة عشرة حتى حفظ كتب كثير من المحدِّثين كابن المبارك ووكيع.[٣]
الرحلة في طلب الحديث
ما أنْ اشتدّ عود البخاري حتى شدّ الرحال في طلب العلم، وقد آثر البقاء في بلاد الحرمين الشريفين بعد أنْ أدّى مناسك الحجّ برفقه والدته وأخوه؛ فبقي بهما ستة أعوامٍ متتابعةٍ ينهل من علم علمائها، ثمّ شرع بعد ذلك في الانتقال بين حواضر العالم الإسلامي، يقصد مجالسة العلماء ومحاورة المحدِّثين؛ فنشط في جمع الحديث، وبدأ بعقد مجالس للتحديث، وكان في كلّ ذلك يتكبد مشاقّ السفر والتّرحال، ولم يُعرف عنه أنّه ترك حاضرةً من حواضر العلم آنذاك إلّا نزل بها وأقبل على مجالس شيوخها، فقد نزل في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبغداد، وواسط، والبصرة، والكوفة، وارتحل إلى دمشق وقيسارية وعسقلان، وخراسان ونيسابور ومرو، ومصر، وغيرها، وكان يكرّر الترحال والإقامة في المكان الذي يزوره مراتٍ متعدّدةٍ.[٣]
شيوخ الإمام البخاري
زاد عدد شيوخ الإمام البخاري عن ألف شيخٍ من العلماء الثقات، وكتب عن ألفٍ وثمانين صاحب حديث، لكنّه لم يروِ عن كلّ مَن أخذ مِن الشيوخ إلّا بعد تحرّي الصّحة والتّثبت، ومن أشهر شيوخ البخاري الذين روى عنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، وقتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو حاتم الرازي.[٣]
مؤلفاته ونتاجه العلمي
ترك الإمام البخاري كثيراً من المصنّفات زادت عن العشرين كتاباً، ما زال بعضها مخطوطاً، ولعلّ ما حباه الله به من حدّة الذكاء وقوّة الذّاكرة، والمثابرة في تحصيل العلوم، فضلاً عن معرفته الواسعة بالحديث النبوي وأحوال الرجال من حيث الجرح والتّعديل وغيرها من الأسباب التي أهّلتْ البخاري للتّصنيف النّافع، ومن هذه المصنّفات:[٣]
- الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه، المعروف بـ الجامع الصحيح.
- الأدب المفرد.
- التاريخ الكبير؛ وهو كتابٌ مختصٌّ بتراجم رواة الحديث.
- التاريخ الصغير؛ وهو تاريخٌ مختصرٌ للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه الكرام، ومن جاء بعدهم من الرواة.
- خلق أفعال العباد.
- رفع اليدين في الصلاة.
- الكُنى.
- التاريخ الأوسط، والتفسير الكبير، وهي من كتب المخطوطة التي لم تُطبع بعد.
- صحيح البخاري، وهو من أشهر كتبه، بل هو الكتاب الأشهر في كتب الحديث النبوي جميعها، حيث بذل فيه صاحبه ستة عشر عاماً جمعاً وترتيباً وتبويباً وتحرّياً لشروط الصّحة التي اشترطها في كلّ روايةٍ، وأهمّ هذه الشروط أن يكون الرّاوي معاصراً لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، فجمع بين شرطي الرؤية والسماع معاً، وقد بلغ عدد أحاديث الكتاب 7275 حديثاً، وقد انتقى هذا العدد من بين ستمئة ألف حديثٍ كانت تحت يديه، وكان الإمام البخاري لا يدوّن حديثاً في كتابه إلّا اغتسل قبل ذلك وصلّى ركعتين، وكان قد اختار المسجد الحرام والمسجد النبوي انطلاقةً لبدء كتابة الأحاديث، وقد تعهّد كتابه بالمراجعة والتنقيح قبل أنْ يُظهره للنّاس، وقد لاقى كتابه هذا استحسان مشايخه وأقرانه؛ فشهدوا له بصحّة أحاديثه، ثم تلقّته الأمة من بعدهم بالقبول؛ فغدا أصحّ كتابٍ بعد كتاب الله -عزّ وجلّ-.
- أقبل أهل العلم على كتاب صحيح البخاري شرحاً ودراسةً وتعليقاً وترجمةً إلى لغاتٍ أخرى، وكان أشهر الكتب التي صُنّفت في شرح الصحيح:
- أعلام السنن للإمام الخطابي.
- الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للإمام الكرماني.
- فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.
- عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني.
- إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري للقسطلاني.
- توفّيَ الإمام البخاري -رحمه الله- في السنة السادسة والخمسين بعد المئتين من الهجرة، وقد مضى من عمره ما يقارب الاثنان وستون عاماً، وكانت وفاته ليلة عيد الفطر.[٤]
المراجع
- ↑ "أهمية الإسناد وعناية الأمة به"، www.islamweb.net، 26-7-2003، اطّلع عليه بتاريخ 8-12-2018. بتصرّف.
- ↑ "علوم الحديث في القرن الثالث"، www.islamweb.net، 26-7-2003، اطّلع عليه بتاريخ 8-12-2018. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث أحمد تمام، "البخاري.. رحلة مع الخلود"، www.islamonline.net، اطّلع عليه بتاريخ 8-12-2018. بتصرّف.
- ↑ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (2006م)، سير أعلام النبلاء، القاهرة: دار الحديث، صفحة 119، جزء 10. بتصرّف.