محتويات
صحيح البخاري
بيّن جمهور المحدّثين إلى أنّ أصحّ الكتب بعد كتاب الله -تعالى- هو كتاب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والذي سمّاه بالجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد انتخبه الإمام البخاري واختاره من ستّمئة ألف حديث، وقد جمع الإمام البخاري أحاديثه من كتب المصنّفات والمسانيد الحديثية المختلفة التي صنّفها أئمة الحديث في القرن الثاني الهجري، وقد خرَّج الإمام البخاري أحاديث كتابه بأسانيدها عن شيوخه إلى مصنّفيها، ويرويها بألفاظ السماع الدَالَّة على اتّصال الإسناد، وقد استغرق الإمام البخاري في تأليف صحيحه ستّ عشرة سنة، ووضع فيه الحديث الصحيح فقط دون غيره، ويُعدّ الإمام البخاري هو أوّل من جمع كتاباً في الحديث الصحيح، وقد بيّن الإمام البخاري أنه لم يستوعب جميع الأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك حتّى لا يطول الكتاب، كما ويوجد في كتابه الصحيح بعض الأحاديث المعلّقة، والمتابعات، والشواهد التي لا تعتبر من الصحيح.[١]
شروط الإمام البخاري في قبول الحديث
اشترط الإمام البخاري في كتابه الصحيح شرطان لقبول الحديث وتخريجه في كتابه، وبيان هذان الشرطان في الآتي:
الشرط الأول
اشترط البخاري طول مصاحبة الراوي لشيخه الذي يروي عنه، وملازمته له؛ لأنّ ذلك يُشير إلى قوّة حفظ الراوي عن شيخه، وشدّة ضبطه للحديث الذي يرويه عنه، وقد استنبط العلماء هذا الشرط من استقراء طريقة الإمام البخاري في تخريج أحاديثه، ويدخل في هذا الشرط ثبوت اتّصال الإسناد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتحقّق العدالة في جميع الرواة وصولاً إلى الصحابي، واشترط أيضاً أن يكون راوي الحديث من أهل الطبقة الأولى في طبقات الرواة عن شيخه، ومثال ذلك أن يكون الرواة عن الإمام ابن شهاب الزهريّ ينقسمون إلى خمس طبقات من حيث اعتبار قوّة الحفظ، والضبط، والإتقان، ومدّة الملازمة له؛ فيخرّج الإمام البخاري أحاديث أصحاب الطبقة الأولى الذين توافر فيهم شرطه، وقد يذكر أحياناً المعتمد من أحاديث أهل الطبقة الثانية دون أن يستوعبه، وغالباً ما يُخرِّج لهم في التعليقات، وأمّا أهل الطبقة الثالثة فإنّه يذكر القليل من أحاديثهم تعليقاً، وقد اعتمد في تخريج أحاديث الرواة على اتّصاف الراوي بالثقة، والعدالة، وندرة الخطأ.[٢][١]
ويقول الحافظ أبو الفضل ابن طاهر المقدسي عن شرط الإمام البخاري في صحيحه: وقد اشترط البخاري على نفسه في كتابه الصحيح ألّا يذكر إلّا الحديث المجمع على ثقة رواته إلى الصحابي المشهور، على ألّا يقع بين الرواة الثقات أي اختلاف، وصحة اتصال الإسناد من غير انقطاع فيه، ويستحسن البخاري الحديث الذي يرويه عن الصحابي راويان، ويكتفي بالراوي الواحد عن الصحابي إن صحّ حديثه.[٣]
الشرط الثاني
اتّبع الإمام البخاري في تأليف كتابه الصحيح اشتراط اللقاء والمعاصرة بين الراوي ومن يروي عنه، وأن يخلو حديث المحدّث من التدليس، وأن يسلم من العلة القادحة في الحديث، والمراد باللقاء أن يلتقي الراوي الثقة مع من يروي عنه الحديث ولو لمرّة واحدة في العمر، فإذا ثبت اللقاء حُملت ألفاظ العنعنة* التي يقولها الراوي على السماع المباشر، وتوضيح ذلك؛ أن يقول الراوي: عن فلان، فالإمام البخاري لا يخرِّج هذه اللفظة في صحيحه حتى يثبت لديه لقاء الراوي بشيخه، ولفظ العنعنة لديه يماثل قوله: سمعت فلاناً، وهذا المنهج اتّبعه الإمام البخاري في جميع ألفاظ العنعنة الواردة في صحيحه، ويقول الحافظ ابن حجر- رحمه الله: وقد أوضح الإمام البخاري عن طريقته في قبول الرواية في كتابه التاريخ، وأكثر منه في صحيحه الجامع؛ إذ كان يُخرِّج الحديث الذي لا صلة له بالباب عموماً؛ ليدلّل على سماع الراوي من شيخه، الذي أخرج له قبل ذلك بلفظ العنعنة، وكان الإمام البخاري يأخذ أحاديث الرواة الثقات الذين بلغوا أعلى درجات الثقة، وابتعد عن الرواة الذين قامت في روايتهم شبهة أو قوي الظنّ فيها.[٢][١][٤]
أهمية صحيح البخاري
كان اهتمام العلماء قديماً وحديثاً منصباً على صحيح الإمام البخاري، ومن ذلك ما قاله الحافظ ابن كثير- رحمه الله تعالى-: وقد اتّفق العلماء وعامّة أهل الإسلام على صحّة ما في صحيح البخاري، وتقبُّل ما ورد فيه، كما وبيّن الإمام أبو عمرو ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- في كتابه علوم الحديث أنّ البخاري ومسلم هما أوّل من ابتدأ التأليف في الصحيح، وتُعدّ كتبهما أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم، وقد فاق صحيح البخاري صحيح مسلم في الصحّة، وكثرة الفوائد، ويقول الإمام النووي- رحمه الله تعالى-: أجمع العلماء على أنّ صحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم هما أصحّ الكتب بعد كتاب الله -تعالى-، وقد اتّفقت الأمّة الإسلاميّة على قبولهما، ولم يُعلم لذلك مخالف من أهل العلم، ويُعتبر صحيح البخاري هو المُقدّم فيهما؛ لأنّه أعلاهما صحّة، وأغزرهما فوائد، سواء كانت فوائد جليّة أو خفيّة، وثبت أنّ الإمام مسلم قد استفاد من علم الإمام البخاري، واعترف له بالفضل، وبتفرّده في علم الحديث.[٣][٥]
وقد اعتنى الإمام البخاري في صحيحه أشدّ العناية، ومحَّص الأحاديث التي خرَّجها فيه، ومكث في جمعه ستّة عشر عاماً، وكان لا يكتب فيه حديثاً حتى يغتسل، ويصلّي ركعتين، ثم يستخير الله -عز وجل- في وضع الحديث في صحيحه، واقتصر في كتابه على ذكر الأحاديث التي صحّت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يذكر الأحاديث الحسنة أو الضعيفة؛ فهو أوّل كتاب يحوي صحيح السنّة النبوية وفق شروط دقيقة،[٦] وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: وقد اقتصر الإمام البخاري في كتابه على الحديث الصحيح، وجعله موضوع الكتاب، وأصله؛ ولذلك سمّاه بالصحيح الجامع، ووضع فيه كثيراً من الفوائد الفقهيّة، والدقائق الحكميّة، واستنبط بفهمه للنصوص معاني غزيرة ذكرها في أبواب متفرّقة بحسب ملائمتها للباب، واهتمّ في كتابه بآيات الأحكام التي في القرآن، واستخرج منها الأدلّة الباهرة، وأشارة إلى تفسيرها بأوسع السبل، ويقول الإمام محي الدين النووي: لم يكن هدف البخاري في صحيحه سرد الأحاديث فقط، وإنّما استخراج الفوائد منها، وذكر الأدلّة على الأبواب الفقهيّة التي وضعها.[٧]
الهامش
*لفظ العنعنة: هو لفظ يطلق على رواية الراوي بلفظ "عن".[٨]
المراجع
- ^ أ ب ت أكرم العمري، بحوث في تاريخ السنة المشرفة (الطبعة الرابعة)، بيروت: بساط، صفحة 244-245. بتصرّف.
- ^ أ ب على عبد الباسط مزيد، منهاج المحدثين في القرن الأول الهجري وحتى عصرنا الحاضر، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، صفحة 265-266. بتصرّف.
- ^ أ ب عبدالمحسن العباد (1390)، الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح (الطبعة السنة الثانية- العدد الرابع)، السعودية: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، صفحة 43-44. بتصرّف.
- ↑ عبد الله الجديع (2003)، تحرير علوم الحديث (الطبعة الأولى)، بيروت: مؤسسة الريان، صفحة 880، جزء 2. بتصرّف.
- ↑ ابن حجر العسقلاني (1422)، نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (الطبعة الأولى)، الرياض: مطبعة سفير ، صفحة 73، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ مصطفى السباعي (1982)، السنة ومكانتها (الطبعة الثالثة)، دمشق: المكتب الإسلامي، صفحة 445. بتصرّف.
- ↑ محمد الزهراني (1996)، تدوين السنة النبوية نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع الهجري (الطبعة الأولى)، الرياض: دار الهجرة، صفحة 116-117. بتصرّف.
- ↑ "لطائف الإسناد - المعنعن"، www.islamweb.net، 25-3-2014، اطّلع عليه بتاريخ 23-7-2020. بتصرّف.