التوبة النَّصوح
بَيَّن العلّامة ابن الجوزيّ في إحدى مُؤلَّفاته معنى التوبة النَّصوح ذاكراً عدداً من الأقوال المَنسوبة إلى الصحابة والتابعين في بيان معناها؛ فقد ذهب الصحابيّ عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- إلى أنّ التوبة النَّصوح تتحقّق عندما يتوب العبد إلى رَبّه من ذَنْبه الذي اقترفَه مُضمِراً في قرارة نفسه وخَلَجات قلبه ألّا يعاود ارتكابَ ذلك الذَّنب، أمّا التابعيّ الحَسن البصريّ، فقد عرَّفَ التوبة النَّصوح بأنّها: حالةٌ شعوريّةٌ تتشارك فيها الجوارح والأركان جميعها؛ فالقلب يندم عليها، واللسان يتوقّف عن الخوض فيها، والجوارج تكفّ عن طَلَبها، والنّفْس تُضمر نيّة تَرْكها وعدم العودة إليها، أمّا حقيقة تلك التوبة كما يراها ابن الجوزيّ، فهي نارٌ تتوقّد في نَفْس الإنسان، فتُحرقه، وعلى العبد حيالَها أن يُجرّد قلبه من الأدران، ويكتسي بحُلّة الأعذار والغُفران، ثمّ يُحلّي كسوتَه بمَزيدٍ من الذلّة والخضوع للرحمن، فإن فَعَل ذلك؛ كُفِّرت سيِّئاته، وغُسِلت حَوباته؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا).[١][٢]
وقد اقتضت حكمة الله -تعالى- وسَعَة رحمته أن يكون باب التوبة مفتوحاً لا يُغلَق أمام أحدٍ من الناس؛ فقد دعا الله -سبحانه وتعالى- المُنافِقين والمُشرِكين إلى التوبة بالرغم من إجرامهم، وعِظَم ذنبهم؛ إذ خاطبَ المشركين؛ فقال: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّـهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)،[٣] ودعا المنافقين إلى التوبة في آيةٍ أخرى؛ فقال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا*إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّـهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّـهِ فَأُولَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّـهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)،[٤] فالله -تعالى- يتقبّل التوبة من عباده جميعهم في كلّ حالٍ.[٥]
مَحْو التوبة النصوح ما قَبلها
تَجُبُّ التوبة النَّصوح ما قبلها من الذنوب والخطايا وتمحوها؛ لِما ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- من أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (الإسلامُ يَجُبُّ ما قبلَه والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلَها)؛[٦] أي أنّ التوبة النَّصوح تُكفِّر ما قد بَدَر من التائب مِن الذنوب والمعاصي، وغيرها من أسباب ترتُّب السيِّئات،[٧] وقد يكون حال المؤمن بعد التوبة أفضل من حاله قَبلها؛ لأنّ الله -تعالى- يُقابل توبتَه النَّصوح بالتكفير والغُفران، فإن انكسرَ بين يَدَي ربّه، وأظهرَ افتقاره إليه، ثمّ لَزِم العمل الصالح وداومَ عليه، كافأه الله بتبديل سيِّئاته حَسَناتٍ، وذلك أعظم ما يناله العبد؛ قال -تعالى-: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَـئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)،[٨] وقد يَصِل التائب إلى درجة السابقين إن داومَ على أداء الفرائض، وحَرِص على النوافل، وانتهى عن المَكاره والمُباحات،[٩] وقد جاء عن الحسن البصريّ أنّ التوبة الصادقة تَجُبُّ ما سبقَها من الخطايا والذنوب، وتتحقّق عندما يكره العاصي ذَنْبه كما أحبَّه يوماً، مع الاستغفار عند تذكُّره.[١٠]
وتجدر الإشارة إلى أنّ التوبة النَّصوح تمحو الأثر السيّئ للذنوب أيضاً، وتُزيل ما عَلِقَ في القلوب؛ فيلقى العبد رَبَّه -عزَّ وجلَّ- يوم القيامة وقد غُفِرت ذنوبُه؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّـهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،[١] وقال عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- إنّ الله يُكرم عبدَه التائب بإلقاء النسيان في قلوب من شَهِدوا ذلك الذَّنب؛ فيُنسي الحَفَظَة من الملائكة ما سَجّلوه في صحيفة العبد من الذنوب، ويُنسي جوارحَه ما اقترفَته من الآثام حتى يأتيَ العبد التائب إلى رَبّه يوم القيامة دون شُهودٍ يشهدون على ذَنْبه وعِصيانه،[١١] وقد قال الله -تعالى- في آيةٍ أخرى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)،[١] وفيها يُرتّب الله وعدَه بالمغفرة على التوبة النَّصوح، مِمّا يدلّ على تحقُّق ما وعد الله به التائبين عند إخلاص النيّة في التوبة، فقد قال رَبّ العزّة في آية أخرى: (وَإِنّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهتَدى)،[١٢] وفي الآية دلالةٌ على تحقُّق موعود الله بالغُفران لِمَن تاب توبةً نَصوحةً، وآمنَ، ولزمَ العملَ الصالح.[١٣]
علامات صِدْق توبة العبد
تُعرَف توبة العبد بعدّة علاماتٍ تدلّ على صِدْقه في توبته، ومن تلك العلامات:[١٤][١٥]
- احتراق القلب، ونَدَمه؛ فالمسلم الصادق في توبته يخشع قلبه ويخضع عند عِصيان رَبّه بقََدْر ذَنْبه، فيكون بذلك خاشعاً خاضعاً مُقبِلاً على رَبّه، مع تحقيق الطمأنينة في النَّفْس، والسكينة فيها.
- وَضْع التوبة في ميزان القبول؛ فالمسلم صادق التوبة يُراجع نفسه دائماً في حال توبته؛ ليرى إن أتى بها على الوجه الذي يرضاه الله ويتقبّله، وتجدر الإشارة إلى أنّ ذلك الشعور لا يعني تسلُّل الشكّ والوَسوسة إلى قلبه؛ لأنّه مأمورٌ أن يُؤمن برحمة الله الواسعة، وفَضْله العظيم، بل يشير ذلك الشعور إلى عِظَم خوفه من النَّقص في مُعطيات قبول توبته، وذلك ما يدفعه إلى الإحسان في توبته، مع تعظيمها، وتوكيدها.
- إتباع التوبة بالعمل الصالح؛ فالعمل الصالح يُعدّ دلالةً على تحقُّق التوبة، وصِدقها؛ قال -تعالى-: (وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّـهِ مَتَابًا).[١٦][١٧]
المراجع
- ^ أ ب ت سورة التحريم، آية: 8.
- ↑ د.ليلى العطار (1998)، آراء ابن الجوزي التربوية (الطبعة الأولى)، الولايات المتحدة الأمريكية: منشورات أمانة، صفحة 391، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ سورة المائدة، آية: 74.
- ↑ سورة النساء، آية: 145-146.
- ↑ "قبول التوبة "، www.islamqa.info، 2004-1-11، اطّلع عليه بتاريخ 2020-6-24. بتصرّف.
- ↑ رواه الشوكاني، في فتح القدير، عن عبدالله بن مسعود، الصفحة أو الرقم: 2/433، صحيح.
- ↑ محمد أبو زهرة، زهرة التفاسير ، مصر: دار الفكر العربي، صفحة 2180، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ سورة الفرقان، آية: 70.
- ↑ عبد العزيز الراجحي، دروس في العقيدة ، صفحة 13، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ أبو ذر القلموني (1424)، ففروا إلى الله (الطبعة الخامسة)، مصر: مكتبة الصفا، صفحة 22، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ ازهري أحمد محمود ، التوبة قبل الحسرات، السعودية: دار ابن خزيمة، صفحة 23. بتصرّف.
- ↑ سورة طه، آية: 82.
- ↑ محمد يسري إبراهيم (2013)، فقه النوازل للأقليات المسلمة (الطبعة الأولى)، القاهرة: دار اليسر، صفحة 452، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ الشيخ خالد الراشد، دروس للشيخ خالد الراشد ، صفحة 9، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ الشيخ محمد صالح المنجد، دروس للشيخ محمد صالح المنجد ، صفحة 8، جزء 65. بتصرّف.
- ↑ سورة سورة الفرقان ، آية: 71.
- ↑ الشيخ أحمد فريد، دروس الشيخ أحمد فريد ، صفحة 4، جزء 21. بتصرّف.