الذنوب جروح القلب
إن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسانَ، أمره بعبادته وحده لا شريك له، وأن تكون حياته كلُّها من أجل ربه جل وعلا، قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولكن الإنسان مجبولٌ بطبعه على التقصير والخطأ، فهذه طبيعة خلقهِ، لأن الله بحكمته لم يجعلنا معصومين، بل نقع في الذنب والخطأ، والتقصير في حق الله جل وعلا. ولا بدّ أن يُدرِكَ الإنسانُ أن الذنب جرحٌ، والجرحُ يزداد ألمه بمقدارِ أهمية العضوِ الذي يصيبه، فجرحٌ في اليدِ ليس كجرحٍ في الرأسِ مثلاً، والذنوب تصيب أهم عضوٍ في جسد الإنسان، ألا وهو القلب، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فالذنب يجرح القلب مباشرةً، وكلما زادتِ الذنوب زادت جروح القلب، حتى يصل إلى الموت، والقلوب الميتة هي القلوب القاسية التي وصفها الله سبحانه وتعالى في القرآن بالحجارة، كما قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ومن هنا تأتي أهمية معالجة هذه الجروح بالتوبة والعودة إلى الله عز وجل، ولزوم طاعته وتجنُّبِ معصيتِه.
التخلص من الذنب
لا يمكن لأي إنسانٍ في هذه الدنيا أن يكون بلا ذنبٍ في حياته، فكل ابن آدم خطَّاء، ولكن يستطيع الإنسان أن يتخلَّصَ من هذه الذنوب ، ويُعالِجَ هذه الجروح، بخطواتٍ واضِحةِ المعالمِ، يستطيع - إذا وفقه الله- أن يخطوها، وهي في النقاط التالية :
- لا بدّ ابتداءً أن يُدرِكَ أنَّه مُذنِب، وأن لا يُهَوِّنَ ذنبهُ في عينيه، فأول خطوةٍ للعلاج هي الاعترافُ بالمرض، فلو أنكرَ المريض مرضهُ، صَعُبَ عِلاجُهُ، فينبغي على الإنسانِ أن يُقِرَّ بِذنبه، ويعترِفَ بخطئِه.
- الدعاء لله سبحانه وتعالى، أن يطهِّرَ القلبَ من الذنوب والمعاصي، فالدعاءُ سلاحُ المؤمنِ الصادق، والله أمرنا أن ندعوه، كما قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
- يجبُ على المُذنبِ أن يتذكَّرَ الجنة والنار، والبعث والجزاء، وأننا محاسبون على أعمالنا، فالله سبحانه لم يَخلُقنا عبثاً، ولم يُعطِنا الاختيار أن نعمل في دنيانا ما نشاء من الذنوب والمعاصي دون حِساب، بل إننا سنُحاسبُ على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، فإما أن يؤاخِذنا الله بها، وإما أن يغفر لنا ويتوب علينا، وهو التواب الرحيم.
- لا بدّ أن يعلم الإنسانُ الذي وقع في الذنب، أن الله عز وجل غفور رحيم بعباده، يغفر لهم ويعفو عنهم، فلا ينبغي على المُذنِبِ أن ييأس من رحمة الله التي وَسِعت كلَّ شيء.
- ينبغي أن يتوب إلى الله توبةً صادقة، يعزم فيها على ألا يرجع للذنب أبداً، فيندم على ما فاته، وعليه أيضاً أن يعيد الحقوق إلى أصحابها، إن كان قد اعتدى على حقوق الناس.
- كثرة الاستغفار من الذنب، فالاستغفار يطهِّرُ القلب، ويمحو الله به الخطايا.
- القيام بالأعمال الصالحةِ الحسنةِ التي تمحو الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبعِ السيئة الحسنة تمحها)، فالإسلام دين عمليّ، يعلُمُنا أن لا نقف كثيراً عند النَّدمِ على الذَّنب، بل يجب المسارعة بالأعمال الحسنةِ، والتي يُساعدُ الانشغال بها على الابتعاد عن الذنب.
ما بعد التخلص من الذنب
حتى لا يعودَ الإنسان إلى الذنبِ بعد التخلُّصِ منه، لا بدّ من خطواتٍ عملية :
- لا بدّ أولاً أن يترك الإنسان الأماكن والمَواطِن التي توصله إلى الذنب، فإذا كان هناك مكانٌ معينٌ كان يذهبُ إليه ليرتكب الذنب، فيجب أن يبتعد عنه قدر المستطاع.
- ترك صحبة السوء، التي تجرُّ الإنسان إلى الذنب، فالمرءُ على دين خليله، وكل إنسانٍ يتأثر بأصدقائه ومحيطه بلا شك، فلا يُمكِنُ لصاحب سوءٍ أن يدلَّ على الخير، كما أنه لا يمكن لصاحب خيرٍ أن يدل على السوء.
- الانشغال بالأعمال المفيدة النافعة، التي تُشغِلُ وقت الإنسان، فلا يفكِّرُ في الذنب إذا انشغلَ بِها، لأن الفراغَ القاتل هو ما يدفعُ الإنسانَ إلى الذنوب، فأحياناً قد يرتكب الإنسان الذنب لمجرَّد أنه يريد قضاء وقت فراغه.!
- الذهاب للمسجد، للصلاة وقراءة القرآن، والاستماع للدروس الدينية، فهذا مما يٌساعِدُ على الابتعاد عن الذنب، لأنه سيرٌ في طاعةِ الله.
- مُجاهدةُ النَّفس، وعدم الخضوع لكل ما تشتهيه النَّفس وترغبه، فشهواتُ الإنسان كثيرة، لو ركض ورائها فسيقضي عمره كله في الشهوات والمعاصي، فينبغي الحرص على جهاد النفس.
- لا بدّ من قطع كل الوسائل التي تؤدي إلى الذنب، فقد يؤدي إلى الذنب نظرةٌ أو كلمةٌ أو غير ذلك من أبسطِ الأشياء، فينبغي الانتباه وعدم الوقوع في شيء من الممكن أن يؤدي للذنب.
- معرفة الإنسان أن الله - سبحانه وتعالى- مطَّلِعٌ عليه، واستحضار مراقبة الله عز وجل دائماً، فلا يمكن للإنسان أن يرتكبَ الذنب، وهو يستحضر نظر الله إليه، وعلم الله به وبحاله، فيستحي من الله، وكما قال الشاعر:
- وإذا خلوت بريبةٍ في ظُلمةٍ
- والنَّفسُ داعيةٌ إلى الطغيان
- فاستحي من نظر الإله وقل لها
- إن الذي خلق الظلام يراني
- الخوف من الله تعالى، فهذا يُبعِدُ الإنسان عن العودة للذنب ويردعه، ويكون الخوفُ من الله، بتذَكُّرِ عذاب الله، واستحضار هيبة الرب جل جلاله، واستصغار العبد لنفسه أمام عظمة الله.
- الرجاء في مغفرة الله ورحمته، فلا بدّ أن يعيش الإنسان بين الخوفِ والرجاء، خوف من عذاب الله، ورجاءٌ في رحمة الله، فالأصلُ في الإنسان أن يعيش بين الخوفِ والرجاء، ولا يُغَّلِّبُ أحدَ الأمرين، لأن تغليب أحدِ الأمرين يؤدي بالإنسان إلى الانحراف عن المسار الصحيح، فمن غلَّبَ جانِبَ الخوف، أصابه اليأس والقنوط، فييأس ويستسلم، ويظن أن الله لن يغفر له، وهذا مما يدفعه إلى العودة إلى الذنب مرةً أخرى، يأساً منه واستسلاماً، ومن غلَّب جانب الرجاء، اطمئن واستصغر ذنبه، وأمن على نفسه من مكر الله، فتراه يرتكبُ الذنب ويعود إليه مرةً بعد مرة، بحجةِ أن الله سيغفرُ له، وكأنه وقَّع عهداً مع الله بذلك!
- كره الذنوب، والنظر إليها باستخفاف، واحتقارها وعدم إقامة أي وزنٍ لها، وعدم الالتفات لأي مغريات قد تجر إليها.
- ويقابلُ ذلك حب الطاعات والأعمال الصالحة، ففرقٌ بين من يعمل عملاً صالحاً لأنّ ذلك واجبٌ عليه، وبين من يعمل الصالحات، حباً فيها ولأنه متعوِّدٌ عليها، لا يستطيع مفارقتها.
- الإكثار من ذكر الله عز وجل، بمُختَلَفِ الأذكار، فذكر الله يُطَمْئِنُ القلب، كما قال تعالى: (ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، والإنسانُ الذي لا يذكر الله، يكون غير مطمئن، قلقاً في حياته، مضطربةً نفسه، وتراه غالباً في همٍ وضيقٍ وحزن لا يفارقه، وهذا نتيجةٌ طبيعية للابتعاد عن ذكر الله .
خاتمة
إنّ الإنسان منا يعيش في هذه الدنيا كعابرِ سبيلٍ مرَّ على بلدةٍ غريبةٍ، ويريد أن يُكمِلَ طريقه، فيأخذُ منها ما يحتاجه للمسير، ولا يزيدُ على ذلك، وهكذا الدنيا، لا بدّ أن نأخذ منها ما يعيننا على الدار الآخرة، لا أن نغرق فيها وفي شهواتها ومعاصيها، فهذا انشغال عن الغاية بالوسيلة، فالوسيلة لو لم تؤدي إلى الغاية، فلا حاجة لنا بها.