محتويات
البنتُ / الصرخة
على شاطئ البحر بنتٌ. وللبنت أَهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتان وبابْ
وفي البحر بارجَةٌ تتسَلَّى
بصَيْدِ المُشَاة على شاطئ البحر:
أَربعَةٌ، خَمْسَةٌ، سَبْعَةٌ
يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلاً
لأنَّ يداً من ضبابْ
يداً ما إلهيَّـةً أَسْعَفَتْها، فنادتْ: أَبي
يا أَبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يُجِبْها أبوها المُسَجَّي على ظلِّهِ
في مهبِّ الغيابْ
دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ
يطير بها الصوتُ أَعلى وأَبعدَ مِنْ
شاطئ البحر تصرخ في ليل بَرّية،
لا صدى للصدى
فتصير هي الصرخةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ
عاجلٍ، لم يعد خبراً عاجلاً
عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ!
أبعد من التماهي
أَجلس ُأمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي
أن أفعل شيئاً آخر هناك، أمام التلفزيون
أَعثُرُ على عواطفي وأَرى ما يحدث بي ولي
ألدخان يتصاعد مني وأَمدُّ يدي المقطوعةَ
لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسومٍ عديدة
فلا أَجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة
الألم أَنا المحاصَرُ من البرِّ والجوِّ والبحر
واللغة أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت
ووضعتني أمام التلفزيون، لأشاهد بقيَّة موتي
مع ملايين المشاهدين، لا شيء يثبت أني
موجود حين أفكِّر مع ديكارت، بل حين ينهض
مني القربان، الآن، في لبنان أَدخُلُ في
التلفزيون، أنا والوحش أَعلم أنَّ الوحش
أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر ولكني
أَدمنت، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز:
التهمني الوحشُ ولم يهضمني وخرجتُ سالماً
أكثر من مرة كانت روحي التي طارت شَعَاعاً
مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر
أَخفَّ وأَقوي، لكني لا أعرف أين أنا
الآن: أمام التلفزيون، أم في التلفزيون
أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر،
من جبل لبناني إلي رَفَح !
ماذا... لماذا كلُّ هذا؟
يُسَلِّي نفسه، وهو يمشي وحيداً، بحديث
قصير مع نفسه. كلمات لا تعني شيئاً،
ولا تريد أن تعني شيئاً: ماذا ؟ لماذا
كل هذا؟ لم يقصد أن يتذمر أو
يسأل، أو يحكَّ اللفظة باللفظة لتقدح
إيقاعاً يساعده على المشي بخفَّةِ شاب
لكن ذلك ما حدث. كلما كرَّر: ماذا
لماذا كل هذا؟ أحسَّ بأنه في صحبة
صديق يعاونه على حمل الطريق. نظر
إليه المارة بلا مبالاة. لم يظن أحد أنه
مجنو . ظنّوه شاعراً حالماً هائماً يتلقّى
وحياً مفاجئاً من شيطان. أما هو، فلم
يَتَّهم نفسه بما يسيء إليها. ولا يدري
لماذا فكَّر بجنكيزخان. ربما لأنه رأى
حصاناً بلا سرج يسبح في الهواء، فوق
بناية مُهَدَّمة في بطن الوادي. واصل
المشي على إيقاع واحد: ماذا... لماذا
كل هذا ؟ وقبل أن يصل إلى نهاية
الطريق الذي يسير عليه كل مساء، رأى
عجوزاً ينتحي شجرة أكاليبتوس، يسند
على جذعها عصاه، يفك أزرار سرواله
بيد مرتجفة، ويبوّل وهو يقول: ماذا...
لماذا كل هذا ؟ لم تكتف الفتيات
الطالعات من الوادي بالضحك على العجوز،
بل رمينه بحبَّات فستق أخضر!
وجوه الحقيقة
ألحقيقةُ أُنثى مجازيّةٌ
حين يختلط الماءُ والنارُ
في شكلها
والحقيقةُ نسبيّةٌ
حين يختلط الدمُ بالدمِ
في ليلها
والحقيقةُ بيضاءُ ناصعةٌ
حين تمشي الضحيِّةُ
مبتورةَ القَدَمَيْنِ
على مهلها
و"الحقيقة شخصيَّةٌ"
في القصيدةِ
لاهِيَ ما هِيَ
أو عكسها
إنها ما تقطَّر من ظلِّها!
ذباب أَخضر
ألمشهد هُوَ هُو. صيفٌ وعَرَقٌ، وخيال
يعجز عن رؤية ما وراء الأفق. واليوم
أفضلُ من الغد. لكنَّ القتلى هم الذين
يتجدّدون. يُولَدُون كُلَّ يوم. وحين يحاولون
النوم يأخذهم القتلُ من نعاسهم إلى نومٍ
بلا أحلام. لا قيمة للعدد. ولا أَحد
يطلب عوناً من أحد. أصوات تبحث عن
كلمات في البرية، فيعود الصدى واضحاً
جارحاً: لا أَحد. لكن ثمَّةَ من يقول:
((من حق القاتل أن يدافع عن غريزة
القتل. أمَّا القتلى فيقولون متأخرين:
من حق الضحية أن تدافع عن حَـقِّها في
الصراخ)). يعلو الأذان صاعداً من وقت
الصلاة إلي جنازات متشابهة: توابيتُ
مرفوعةٌ على عجل، تدفن علي عجل... إذ لا
وقت لإكمال الطقوس، فإنَّ قتلي آخرين
قادمون، مسرعين، من غاراتٍ أخرى. قادمون
فُرَادي أو جماعات... أو عائلةً واحدةً لا
تترك وراءها أيتاماً وثكالي. السماء رماديَّةٌ
رصاصية، والبحر رماديٌّ أزرق. أَمَّا لون
الدم فقد حَجَبَتْهُ عن الكاميرا أَسرابٌ من
ذباب أَخضر!
حمام
رفٌّ من الحمام ينقشع فجأة من خلل الدخان.
يلمع كبارقة سِلْمٍ سماوية. يحلِّق بين الرماديّ
وفُتات الأزرق على مدينة من ركام. ويذكِّرنا
بأن الجمال ما زال موجوداً، وبأن اللا موجود
لا يعبث بنا تماماً إذ يَعِدُنا، أو نظنُّ أنه
يعدنا بتجلِّي اختلافه عن العدم. في الحرب
لا يشعر أَحد منا بأنه مات إذا أَحسَّ
بالألم. الموت يسبق الألـم. والألـم هـو
النعمة الوحيدة في الحرب. ينتقل من حيّ إلي
حيّ مع وقف التنفيذ . وإذا حالف الحظّ أحداً
نسيَ مشاريعه البعيدة ، وانتظر اللا موجود
وقد وُجِدَ مُـحَلِّقاً في رفِّ حمام . أرى في سماء
لبنان كثيراً من الحمام العابث بدخان يتصاعد
من جهة العدم !