فصل الخريف، فصل إعادة تهيئة الأرض والأشجار لموسمٍ جديد، هو فصل الحياة، لكن بصورةٍ أخرى؛ ففيه تنفض الأشجار أثوابها القديمة، لتتهيّأ لارتداء أثوابٍ زاهية، يانعة، وجديدة، ورغم أنّ معظم الناس يربطون فصل الخريف بالكآبة والحزن إلّا أنّه في الحقيقة هو فصل الجمال المتفرد، وكأن الأرض تستريح فيه من جميع أعبائها، فيهدأ صخبها، بعد أن تخرج من زحمة الفصول الأخرى، من مطر الشتاء ورياحه وبرودته القاسية، ومن فصل الربيع ومزاجيته وتزاحم زهوره وأوراقه، ومن لسع حرارة الصيف، وزحمة قطف الثمار، ليأتي فصل الخريف الوادع الهادئ الجميل، الذي ليس فيه بردٌ لاسع، ولا حرارة لا تُطاق، بل فيه جوٌ لا يليق إلا به.
وفي الخريف، ترتدي أوراق الأشجار ذلك الثوب المتدرّج بين الأحمر والأصفر والشاحب، وكأنها تتوحد مع ألوان الغروب، لتشكل لوحةً ربانيةً مذهلة ورائعةً، تنعكس فيه الأضواء، خصوصاً أن شمس الخريف شمسٌ خجولة، لا يمكن أن تلسعك بحرّها الشديد، ولا تسمح للغيمات أن تحجبها عنك بشكلٍ تام، بل إنّ الخريف يعري كل هذا لتظهر أغصان الأشجار على فطرتها وكأنّها تعيد تشكيل الحياة من جديد.
في وطننا العربي يقترن شهر أيلول بفصل الخريف؛ حيث تتغير الملامح فيه، وتلملم الأشجار والأزهار والثمار أغراضها وتضعها في حقيبة السفر، وكأن الخريف يهيئ النفس لوداعٍ مؤقت، يأخذ الخضرة، ويستبدلها بالأصفر والأحمر والبني، ليعود ويلونها من جديد، لنتعلم درساً أن الخريف يعني اكتمال الأشياء، وتأدية الرسالة، وانصياع الطبيعة لفطرة الحياة التي خلقنا الله تعالى عليها، فهذا الترتيب الدقيق لا ينبغي لأيّ مخلوقٍ أبداً، بل هو توكيل رب العباد، الذي خلق الشتاء والربيع والصيف والخريف، وخلق الجمال في كل فصل، لكنّه أودع سر السحر في فصل الخريف.
في الخريف أيضاً تستعدّ الطيور لتهاجر بعيداً، وكأن الخريف مرتبطٌ بالسفر والحرية والانطلاق، يفتح الباب على صراعيه، لتطير الأشياء مع أوراق الشجر، ومن مميزات فصل الخريف أيضاً أنّ الأشياء فيه تعلن عن دهشتها أكثر من أي فصلٍ آخر، فورود الربيع على كثرتها لا يمكن أن تكون بمكانة وردةٍ طالعةٍ في فصل الخريف، لأنّ الورد فيه نادرٌ متميز، يرفض أن يشبه غيره من الورود والزهور.
وفي فصل الخريف أيضاً تكتسي الأرض بأوراق الشجر، فتصبح كمن يرتدي ثوب العيد الأكبر، فالأوراق الساقطة من أشجاره تجعل الأرض تبدو مثل حوريةٍ بحريةٍ، لا مثيل لها بالسحر والجاذبية، وكأنّ الأوراق تدنو من الأرض، لتُخبرها بأسرارها الكثيرة، ورحلتها مع باقي فصول العام، فطوبى للخريف.