الكنعانيّون
تتشابكُ وجهات النظر، والمعلومات التاريخيّة، والحقائق عندما نتحدَّث عن الحضارات السابقة المُوغِلة في القِدَم؛ وذلك لتنوُّع المصادر، وتعدُّد الأدلّة التي قد يصعب معها على الباحث، والمُؤرِّخ اختيار ما يستندُ إليه منها، وخاصّة في ما يتعلَّق بالمراجع، والمخطوطات، والروايات المُتبايِنة أو المُتناقِضة أحياناً.
تعُود أصول أعراق الكنعانيّين إلى العرب القُدماء، حيث شَيَّدوا مُدُنهم على مساحة شاسعة من بلاد الشام، وذلك في الفترة المعروفة تاريخيّاً ب(الفترة الكنعانيّة)؛ أي في الألفيّة الثالثة قَبل الميلاد تقريباً، ومن الجدير بالذكر أنّ بعض الباحثين يَعتبرون أنّ "الكنعانيّين" اسمٌ يضمُّ القبائل التي سَكَنت بلاد الشام جميعها، كالعمونيّين، والمُؤابيّين، والفينيقيّين، وغيرهم،[١] وقد دلَّت على ذلك مجموعة من النقوش التي عُثِر عليها في مناطق مختلفة من بلاد الشام، إذ قادت هذه النقوش أيضاً إلى اكتشاف علاقة ترابُط بين الأبجديّة الكنعانيّة، واللغة العربيّة، حيث تُعتبَر الأبجديّة الأوغاريتيّة لهجةً كنعانيّة تتألَّف من 30 رمزاً، ولكلٍّ من هذه الرموز ما يُقابله في اللغة العربيّة، وهذا الأمر يُؤكِّد لنا أنّ الكنعانيّين عربٌ أقحاح، تطوَّرت لغتهم العربيّة الأُولى إلى عربيّة قريش، لغة القرآن الكريم التي نعرفُها اليوم، علماً بأنّ أَصْل كلمة كنعانيّين من "كَنع"، ومعناها باللغة الكنعانيّة: انخفضَ، في دلالة على أنّهم سكنوا الأرض المُنخفضة؛ أي فلسطين، وما حولها، وتشكَّلت فيها حضارتهم التي شَمِلت العصرَين: البرونزيّ المُتأخِّر، والبرونزيّ المُتوسِّط.[١][٢]
و في المُقابل، فلا أحد يختلف على أنّ الشعب الكنعانيّ هو أقدم شعب معروف عَمر المنطقة، وبذلك تتأكَّد الهويّة الإسلاميّة للأرض المُقدَّسة خلال أطول فترة تاريخيّة مُتواصِلة منذ الفَتْح الإسلاميّ لها في السنة 15 للهجرة وحتى الآن، فمع زوال حُكم الآشوريّين، والفُرس، والفراعنة، والإغريق، والرومان، ظلَّت الحضارة الكنعانيّة العربيّة راسخة وموجودة في الأرض المُقدَّسة، موطن نشأتها، ومُستقَرّها.[٣]
أرض كنعان
نظراً لاتِّساع الرُّقعة الجغرافيّة التي سَكَنها الكنعانيّون، وطول مُدّة حضارتهم، وتبايُن الروايات عنها، فإنّ حدودها لم تكن ثابتة ومُحدَّدة بدقّة في النصوص التاريخيّة، خاصّة وأنّ حضارتهم كانت تتمدَّد وتتوسَّع حدود نفوذهم فيها، إلّا أنّ العلماء، والباحثين يتَّفقون على أنّ حدود الحضارة الكنعانيّة كانت تمتدُّ من وادي العريش في قطاع غزّة جنوباً، وحتى الجبال الشماليّة في لبنان، ومن شواطئ البحر الأبيض المُتوسِّط غرباً، إلى جبال الجولان، وغور الأردنّ، والبحر الميّت شرقاً. ومن الجدير بالذكر أنّ التجارة كانت تُعتبَر محور كَسْب عَيْشهم، كما كان المجتمع يتَّصف بصِبغة طبقيّة؛ أي أن فيه الغنيّ، والفقير، والفلّاح، والعامل.[٤]
ويُخبرُنا التاريخ عن أقدم الآثار التي بناها أوّل من سَكن مدينة القدس الأُولى، حيث يَرجعُ تأريخ أقدم هذه الآثار إلى 1800 عام قَبل الميلاد؛ أي إلى الفترة الكنعانيّة، فهُم الذين أطلقوا على مُعظم المُدن الفلسطينيّة الأسماء التي نعرفها اليوم، كمدينة عكّا، ويافا، وغزّة، وحَيفا، وصَفَد، وغيرها، كما أنّ الحضارة الكنعانيّة ضمَّت نحو 200 مدينة وقرية في فلسطين التي عُرِفَت حينَها ب(أرض كنعان) حتى عام 1200 قَبل الميلاد عندما غَزَتها القبائل الكريتيّة، وقد كَشَفت التنقيبات في مدينة سلوان عن أسوار قديمة شُيِّدَت منذ عام 2500 قَبل الميلاد؛ أي أنّها تعود إلى الكنعانيّين، علماً بأنّ عُمرها يبلغُ الآن أكثر من 4500 عام، ولذلك يُؤكِّد لنا التاريخ أنّ العرب كعِرق هم أقدم مَن اتَّخذ أرض فلسطين، وبلاد الشام موطناً لهم، ولم يُذكَر أن هذه الأرض قد هجرها العرب الأصليّون، أو ارتحلَ عنها سُكّانها الكنعانيّون يوماً.[١][٥]
ومن المُلفِت للنظر، أنّ المُدُن الكنعانيّة وُصِفت بأنّها "تفيضُ لَبَناً وعَسَلاً"؛ للدلالة على مدى الاستقرار، والتحضُّر الذي كانت تنعمُ فيه، فقد استعمل الكنعانيّون الحديد، والبرونز في صناعة أسلحتهم، واشتُهِرت عندهم زراعة القمح، والعنب، والزيتون، والشعير، كما نَسَج شعبُها الصوف، وبنى الأسوار، واستخدمَ الفخّار، والخشب في تشييد الأبنية، وصناعة الأثاث. يقول الكاتب اليهوديّ الأمريكيّ موشيه منوحين في كتابه (انحلال اليهوديّة في عصرنا): "منذ أكثر من أربعة آلاف سنة عاش الكنعانيّون في فلسطين، حيث بنوا المدن والقصور، واستعملوا الجياد والعربات، وأقاموا المعابد، وكانت بيوتهم مَبنيّة بشكل جيّد وبصورة فريدة في ذلك الزمن البعيد".[٦] وتُعتبَر مدينة الجبيل في لبنان، ومدينة مجدو في فلسطين، من أكثر المُدُن الكنعانيّة أهمّيةً ومكانة؛ فمدينة مجدو هي مصدر الأخشاب، وهي مُحصَّنة بسور يُحيط بها، له ثلاثة أبواب، وأربع غُرَف حِراسة.[٢]
الآثار الكنعانيّة
سادَت في زمن الكنعانيّين صناعة الخَزَف، وحَفْر العاج، حيث كانوا ماهرين في صناعة الأواني بمختلف الأشكال، وطلائها، حتى تمكَّنوا من صناعة أواني النحاس، والفضّة، والذهب، بالإضافة إلى صناعة الخناجر، والرِّماح، كما أنّهم صنعوا تماثيل آلهتهم من الطين، وفي أوج براعتهم في هذه الحِرَف، تمكَّنوا من صناعة المجوهرات المُرصَّعة بالأحجار الكريمة، إلّا أنّ هذه الصناعات قَلَّت، وفَقَدت دقّتها ورُقِيَّ الموادّ المصنوعة منها، وعلى الرغم من ذلك، فقد تطوَّرت في هذه الفترة حركة التجارة، وتمَّ اختراع الكتابة الأبجديّة، والكتابة الهيروغليفيّة المصريّة، والكتابة المسماريّة، وغيرها، إلّا أنّ الكتابة الأبجديّة كانت تُعَدّ الأكثر أهمّية، وقد تمّ العثور على تلك النقوش والآثار كلّها في بقايا المعابد، والمدافن، والأماكن الأثريّة المُنتشِرة في الأراضي الكنعانيّة حتى يومنا هذا.[٢]
المراجع
- ^ أ ب ت رائد فتحي، عبد الله معروف، زياد أبحيص (2018)، العالم في مدينة (الطبعة الأولى)، صفحة 57-58. بتصرّف.
- ^ أ ب ت "كنعان"، palestinapedia.net، 29-9-2014، اطّلع عليه بتاريخ 12-9-2018. بتصرّف.
- ↑ محسن صالح (18-6-2013)، "كتاب حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية: رؤية إسلامية"، alzaytouna.net، اطّلع عليه بتاريخ 25-8-2018. بتصرّف.
- ↑ زيدان كفافي (2011)، بلاد الشام في العصور القديمة (الطبعة الأولى)، الأردن: الشروق، صفحة 254-255.
- ↑ "فلسطين عربية منذ استوطنها الكنعانيون"، aljazeera.net، اطّلع عليه بتاريخ 12-9-2018. بتصرّف.
- ↑ رياض العيلة (9-2-2014)، "فلسطين أرض كنعانية فلسطينية للفلسطينيين"، alwatanvoice.com، اطّلع عليه بتاريخ 25-8-2018. بتصرّف.