محتويات
موت المتنبي
توفي المتنبي أثناء عودته من بلاد فارس قاصداً الكوفة على يد فاتك الأسدي، الذي كان يترصد لقتله، بسبب هجائه لابن أخته ضبة بن يزيد بقصيدة مطلعها:
ما أنصف القوم ضبة
- وأمه الطرطبة
إذ خرج فاتك على أبي الطيب وجماعته مع ثلاثين فارساً يحملون السيوف والسهام، فتقاتل الجمعان في معركة غير متكافئة في العدد والعدة، وأثناء القتال، وبعد مقتل ابنه (محسّد) أراد الفرار، فجاءه غلامه يسأله: (ألست القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني...)، فردّ عليه المتنبي: (قتلتني قتلك الله)، فرجع وقاتل بشجاعة حتى قُتل، وكان ذلك في منطقة يقال لها الصافية شرقي نهر دجلة، ويرجح أنّ ذلك كان في الثامن والعشرين من رمضان في عام 354هـ.[١][٢][٣][٤]
سبب موت المتنبي
تختلف الروايات حول مقتل المتنبي، وعن الأسباب التي أدّت إلى ذلك، ومن المسؤول الأول عن مقتله، فمن الرواة من يذهب إلى القول بأن معز الدولة البويهي هو المسؤول عن مقتل المتنبي؛ لأنه أظهر استخفافاً به وبوزيره المهلبي، ولم يمدحهما حين وفد عليهما، بل حرّض ضدهم، واستهزأ بالعجم؛ الأمر الذي جعل معز الدولة البويهي يتربص به السوء، ويستعين بفاتك الأسدي؛ للتخلص منه، وهناك من ذهب إلى أنّ القرامطة هم الذين قتلوا الشاعر، لأنّه ارتدّ عن عقيدته القرمطية التي كان قد اعتنقها في صباه أمثال طه حسين.[٥][٤] وفيما يلي عرض لأحداث يُعتقد بأنها السبب وراء مقتله.
كافور الأخشيدي وعلاقته بموت المتنبي
بعد أن التقى المتنبي بسيف الدولة الحمداني أمير حلب أقام عنده وأصبح شاعره المفضل، وكان كثير المدح له، غير أنه كان كلما أحس بالجفاء من سيف الدولة قال شعراً يشعر السامع بأنه ندّ له، وذلك كقوله:[٣]
ليعلمُ الجمعُ ممن لمّ مجلسنا
- بأنني خير من تسعى به قدمُ
فحدثت فجوة بينه وبين سيف الدولة؛ بسبب الحاسدين الذين كانوا يترصدون الإيقاع به ليبعدوه عنه، فعزم الرحيل إلى مصر بعد تسع سنوات أمضاها بقرب سيف الدولة، وقال:[٣]
إِذا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَروا
- أَن لا تُفارِقَهُم فَالراحِلونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ
- وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ
وكانت مصر آنذاك تحت حكم كافور الإخشيدي، فتوجه إليها يحمل آماله ببلوغ المجد، فوعده كافور بولاية من الولايات، لكنه لم يوفِ بوعده، فهجره المتنبي، وهجاه هجاءً لاذعاً بقصيدته الدالية المشهورة بقوله:[٣]
لاتشتري العبد إلا والعصا معه
- إن العبيد لأنجاس مناكيد
فغضب كافور من المتنبي، وأرسل بعضهم في أثره كي يأسروه أو يقتلوه، ولكنهم فشلوا في ذلك، وقد ذكر الأستاذ محمد محمود شاكر أنّ مقتل المتنبي كان عبارة عن مؤامرة خطّط لها كافور بالتعاون مع البويهيين في العراق، وعلى رأسهم عضد الدولة، وذلك حتى قبل هجائه له، بسبب خوفه من أطماعه في ملك مصر، فبذل في سبيل ذلك الكثير من الأموال، فكيف لا يسعى إلى قتله ويبذل المزيد من المال بعد أن بلغه هجاءه له، وبذلك تمّ التخطيط لقتله بالاستعانة ببني أسد للقيام بهذه المهمة.[٤]
عضد الدولة وعلاقته بموت المتنبي
كان عضد الدولة أميراً على شيراز، وأديباً وشاعراً. سمع عن المتنبي وأحبّ لقاءه، وسعى إلى ذلك، فأرسل إلى وزيره ابن العميد في أرجان يطلب منه أن يدعو المتنبي ليأتي إليه، وبعد الإلحاح توجّه الشاعر إلى شيراز قاصداً بلاط عضد الدولة، فنظم المتنبي أثناء إقامته قصائد في مدح عضد الدولة، باستثناء واحدة كانت لتعزيته بوفاة عمته، وقد أغدق الأمير على المتنبي الهبات والأموال، وبعد ثلاثة أشهر من إقامته عزم على الرحيل، فقرأ على عضد الدولة ديوانه، وأنشده قصيدة الوداع، والتي شكر فيها الأمير، وأظهر رغبته في العودة إليه، بقوله:[٢]
أروح وقد ختمت على فؤادي
- بحبك أن يحل به سواكا
وقد حملتني شكراً طويلاً
- ثقيلاً لا أطيق به حراكا
غادر الشاعر شيراز في الثامن من شعبان متوجّهاً إلى الكوفة، وقد أخبر بعض الرواة إلى أن لعضد الدولة يد في مقتل المتنبي، منها تلك التي تقول إنّ عضد الدولة كان قد وهب المتنبي ثلاثة آلاف دينار، وثلاثة أفراس مزينة، فدس أحدهم ليسأل المتنبي عن عطاياه، وأيها أجزل عطاياه أم عطايا سيف الدولة الحمداني، فأجاب المتنبي: (إن سيف الدولة كان يعطي طبعاً، وعضد الدولة يعطي تطبّعاً)، فغضب عضد الدولة وأمر بقتله، وفي رواية أخرى تذكر أن عضد الدولة قال: إن المتنبي كان جيد الشعر بالغرب، فلما بلغ هذا المتنبي قال: الشعر على قدر البقاع، وقد نقد النقاد هاتين الروايتين، لاستبعاد أن يذم المتنبي رجلاً أكرمه وأحاطه بحفاوة كبيرة.[٢]
كما يؤكد فريق آخر من الباحثين أنّ عضد الدولة هو الرأس المدبر لمؤامرة قتل المتنبي، وذلك بسبب اعتزاز الشاعر بعروبته وحبه للعرب، وبسبب شعره الذي تناول به الحكام العجم بالسوء وقوله فيهم ما يعيبهم، فاتخذ عضد الدولة من حادثة فاتك الأسدي ذريعة تبعد عنه الشبهات، وكانت عطاياه التي وهبها للمتنبي حين كان في ضيافته وسيلةً ليثبت بها بأن لا علاقة له بمقتل ضيفه الذي أكرمه،[٤] أما الرواية التي تبرئ عضد الدولة من دم المتنبي، فهي تلك التي تقول: إن عضد الدولة كان قد أرسل بعض جلسائه إلى المتنبي وقال له: (سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقيهم منا) فأجابه المتنبي قائلاً: (ما خدمت عيناي قلبي كاليوم)، ورأى النقاد أن مثل هذا القول أجدر أن يصدر عن المتنبي، ودليلاً على رضاه عن إقامته عند عضد الدولة، وعن امتنانه لرجل لقيه بالحفاوة والتكريم.[٢]
قتل فاتك الأسدي للمتنبي
ذكر أبو نصر محمد الجبلي صديق فاتك الأسدي خبر قتله للمتنبي، بأنه لما سمع بالشعر الذي هجا به ابن اخته ضبة غضب، وعزم على قتله، فتقصى أخباره، وعلم أنه قد غادر فارس قاصداً العراق، فاستعدّ لقطع الطريق عليه، وأخذ معه عدداً من أبناء عمومته، إذ كان فاتك ينزل عند أبي نصر في انتظار المتنبي، ويتقصّى أخباره من المسافرين، فسأله أبو نصر عن سبب كثرة سؤاله عن الشاعر، فأخبره أنه يريد معاتبته على هجائه لابن أخته، لكن أبا نصر لم يصدقه لمعرفته الجيدة بفاتك، فقال له: (هذا لا يليق بأخلاقك)، فتضاحك فاتك، وأظهر نيته الحقيقية ورغبته في سفك دم المتنبي، وحاول أبو نصر ثنيه عن عزمه، وقال له: (أزل هذا الرأي من قلبك فإن الرجل شهيرالاسم، بعيد الصيت، ولا يحسن منك قتله على شعر قاله، قد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام، فما سمعنا بشاعر قُتل بهجائه)، ثم قال: (لم يبلغ جرمه ما يوجب قتله)، فقال فاتك: يفعل الله ما يشاء، وانصرف.[٢]
ثم أخبر أبو نصر أنه بعد ثلاثة أيام من هذه الحادثة، نزل عنده المتنبي في طريق عودته إلى العراق، وهو يحمل كل ما يملك من مال وذهب، ودفاتر تضم أشعاره، وسأله عن أخبار رحلته وبمن لقي، فأخبره المتنبي عن كرم وعلم ابن العميد وعضد الدولة، وحين أقبل الليل وهمّ بالرحيل، أخبره أبو نصر عن نية فاتك، وطلب منه أن يحذره، وأن يأخذ معه بعض الرجال لحمايته، لكن المتنبي رفض بشدة، وقال: والله لا فعلت شيئًا من هذا، ثم غادر وكان هذا آخر علم أبي نصر به.[٢]
فلسفة الموت عند المتنبي
امتلأ شعر المتنبي بذكر الموت، فهاجس الموت شغل حيزاً كبيراً من تفكيره ووجدانه، فهو يتوقع الموت في أي لحظة، لا سيما وأنه عاش حياته مغترباً، ورغم هذا الاغتراب عاش عزيزاً لم يذل، فهو القائل:[٣]
ما مُقامي بأرضِ نخلةٍ إلا
- كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ
عش عزيزاً أ ومُت و أنتِ كريم
- بين طعْنِ القَنا و خَفْق البنودِ
كما بعث المتنبي الحياة في مفهوم الموت المخيف، حين ربط مجابهته بالعزة، والكرامة، والإقدام، وهو عنده خير من العيش في المذلة والهوان:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
- فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ صغيرٍ
- كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
ويرتبط الموت عند المتنبي بقيمة الشجاعة، فبما أنه لا مفر من الموت، وهو لابد آتٍ، فلماذا الضعف والجبن، ويتجلى ذلك بقوله:
وإذا لم يكن من الموتِ بدٌ
- فمن العجزِ أن تكونَ جباناً
وقد رثى المتنبي عدَّةُ شعراء، منهم صديقه أبو الفتح عثمان بن جنِّي النحوي، ومظفر بن علي الطبسي، إلى جانب عبد الله الكاتب النصيبي، وثابت بن هارون الرَّقِّي النصراني اللذين ذهبا إلى عضد الدولة، وأنكروا فِعلةَ فاتك وأصحابه، لكونهم قتلوا ضيفه، واستحوذوا على عطائه، ولكن عضد الدولة لم يصنع شيئاً، وذهب بذلك دم الشاعر وأصحابه هدراً.[٦]
المراجع
- ↑ عبد الرحمن البرقوقي، شرح ديوان المتنبي، بيروت: دار الكتب العلمية، صفحة 45،46. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج ح عبد الوهاب عزام، ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام، مصر: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، صفحة 200، 199 ،196-192، 208. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ج علي كنانة (2012-2013)، المنفى الشعري العراقي (الطبعة الأولى)، بيروت: مؤسسة الرحاب الحديثة، صفحة20 ،17،19. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث ياسين خليل (2012)، "من الذي قتل المتنبي؟ "، العلوم الإنسانية والاجتماعية،، العدد 3، المجلد 39، صفحة ،625،624. بتصرّف.
- ↑ شلوف حسين (2006)، شعر الحكمة عند المتنبي بین النـزعة العقلیة و المتطلبات الفنیة.، الجزائر: جامعة الأخوة منتوري ، صفحة 79. بتصرّف.
- ↑ "الشعراء المولدون"، www.hindawi.org، اطّلع عليه بتاريخ 2020-4-18. بتصرّف.