قصيدة أبي لنزار قباني

كتابة - آخر تحديث: ٣:٤٢ ، ٢٦ فبراير ٢٠١٩
قصيدة أبي لنزار قباني

أبي

أمات أبوك؟

ضلالٌ! أنا لا يموت أبي

ففي البيت منه

روائح ربٍ.. وذكرى نبي

هنا ركنه.. تلك أشياؤه

تفتق عن ألف غصنٍ صبي

جريدته. تبغه. متكاه

كأن أبي – بعد – لم يذهب

وصحن الرماد.. وفنجانه

على حاله.. بعد لم يشرب

ونظارتاه.. أيسلو الزجاج

عيوناً أشف من المغرب؟

بقاياه، في الحجرات الفساح

بقايا النور على الملعب

أجول الزوايا عليه، فحيث

أمر .. أمر على معشب

أشد يديه.. أميل عليه

أصلي على صدره المتعب

أبي.. لم يزل بيننا، والحديث

حديث الكؤوس على المشرب

يسامرنا.. فالدوالي الحبالى

توالد من ثغره الطيب

أبي خبراً كان من جنةٍ

ومعنى من الأرحب الأرحب

وعينا أبي.. ملجأٌ للنجوم

فهل يذكر الشرق عيني أبي؟

بذاكرة الصيف من والدي

كرومٌ، وذاكرة الكوكب


أبي يا أبي .. إن تاريخ طيبٍ

وراءك يمشي، فلا تعتب

على اسمك نمضي، فمن طيبٍ

شهي المجاني، إلى أطيب

حملتك في صحو عيني.. حتى

تهيأ للناس أني أبي..

أشيلك حتى بنبرة صوتي

فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟


إذا فلة الدار أعطت لدينا

ففي البيت ألف فمٍ مذهب

فتحنا لتموز أبوابنا

ففي الصيف لا بد يأتي أبي


خمس رسائل إلى أمي

صباحُ الخيرِ يا حلوه..

صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوه

مضى عامانِ يا أمّي

على الولدِ الذي أبحر

برحلتهِ الخرافيّه

وخبّأَ في حقائبهِ

صباحَ بلادهِ الأخضر

وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر

وخبّأ في ملابسهِ

طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر

وليلكةً دمشقية..

أنا وحدي..

دخانُ سجائري يضجر

ومنّي مقعدي يضجر

وأحزاني عصافيرٌ..

تفتّشُ –بعدُ- عن بيدر

عرفتُ نساءَ أوروبا..

عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ

عرفتُ حضارةَ التعبِ..

وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر

ولم أعثر..

على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر

وتحملُ في حقيبتها..

إليَّ عرائسَ السكّر

وتكسوني إذا أعرى

وتنشُلني إذا أعثَر

أيا أمي..

أيا أمي..

أنا الولدُ الذي أبحر

ولا زالت بخاطرهِ

تعيشُ عروسةُ السكّر

فكيفَ.. فكيفَ يا أمي

غدوتُ أباً..

ولم أكبر؟

صباحُ الخيرِ من مدريدَ

ما أخبارها الفلّة؟

بها أوصيكِ يا أمّاهُ..

تلكَ الطفلةُ الطفله

فقد كانت أحبَّ حبيبةٍ لأبي..

يدلّلها كطفلتهِ

ويدعوها إلى فنجانِ قهوتهِ

ويسقيها..

ويطعمها..

ويغمرها برحمتهِ..

وماتَ أبي

ولا زالت تعيشُ بحلمِ عودتهِ

وتبحثُ عنهُ في أرجاءِ غرفتهِ

وتسألُ عن عباءته

وتسألُ عن جريدتهِ

وتسألُ –حينَ يأتي الصيفُ-

عن فيروزِ عينيه

لتنثرَ فوقَ كفّيه

دنانيراً منَ الذهب

سلامات

سلامات

إلى بيتٍ سقانا الحبَّ والرحمة

إلى أزهاركِ البيضاءِ.. فرحةِ "ساحةِ النجمة"

إلى تختي

إلى كتبي

إلى أطفالِ حارتنا

وحيطانٍ ملأناها

بفوضى من كتابتنا

إلى قططٍ كسولاتٍ

تنامُ على مشارقنا

وليلكةٍ معرشةٍ

على شبّاكِ جارتنا

مضى عامانِ.. يا أمي

ووجهُ دمشقَ،

عصفورٌ يخربشُ في جوانحنا

يعضُّ على ستائرنا

وينقرنا

برفقٍ من أصابعنا

مضى عامانِ يا أمي

وليلُ دمشقَ

فلُّ دمشقَ

دورُ دمشقَ

تسكنُ في خواطرنا

مآذنها.. تضيءُ على مراكبنا

كأنَّ مآذنَ الأموي

قد زُرعت بداخلنا

كأنَّ مشاتلَ التفاح

تعبقُ في ضمائرنا

كأنَّ الضوءَ، والأحجارَ

جاءت كلّها معنا

أتى أيلولُ يا أماه

وجاء الحزنُ يحملُ لي هداياهُ

ويتركُ عندَ نافذتي

مدامعهُ وشكواهُ

أتى أيلولُ.. أينَ دمشقُ؟

أينَ أبي وعيناهُ

وأينَ حريرُ نظرتهِ؟

وأينَ عبيرُ قهوتهِ؟

سقى الرحمنُ مثواه

وأينَ رحابُ منزلنا الكبير

وأين نُعماه؟

وأينَ مدارجُ الشمشير

تضحكُ في زواياهُ

وأينَ طفولتي فيهِ؟

أجرجرُ ذيلَ قطّتهِ

وآكلُ من عريشتهِ

وأقطفُ من بنفشاهُ

دمشقُ، دمشق

يا شعراً

على حدقاتِ أعيننا كتبناهُ

ويا طفلاً جميلا

من ضفائره صلبناهُ

جثونا عند ركبته

وذبنا في محبّتهِ

إلى أن في محبتنا قتلناه


أنا والفصول

لم يكن الربيع صديقي

في يومٍ من الأيام

ولا تحمست

لطبقات الطلاء الحمر، والأزرق

التي يضعها على وجهه

ولا للأشجار التي تقلد

راقصات الـ (فولي بيرجير)

الخريف وحده

هو الذي يشبهني


أُمّي

في أيام الصيف

أذهب إلى حديقة النباتات في جنيف لأزور أمي

فهي تعمل بستانية لدى الحكومة السويسرية

وتقبض عشرة فرنكات

عن كل وردةٍ شامية تزرعها لهم

614 مشاهدة