الحكمة والحكماء
ذكر الله -تعالى- في كتابه الكريم بعض القصص والشخصيات؛ بُغية أخذ العبرة والفائدة منها، من أولئك الشخصيات التي وثق الله -سبحانه- شيئاً من أخبارها لقمان، وهو شخصٌ اتصف بالحكمة حتى لقّب لقمان الحكيم، والحكيم في اللغة هو من تصدر أعماله وأقواله عن رويّةٍ ورأيٍ سديدٍ، وتعرّف الحكمة بأنّها معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم،[١] وقد اتصف لقمان بالحكمة، حتى استدلّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يوماً في أحد أقواله، ونقله إلى الصحابة رضي الله عنهم، فقد قال النبي عليه السلام: (إن لقمانَ الحكيمَ كان يقولُ: إن اللهَ عزَّ وجلَّ إذا استُودِعَ شيئًا حفِظَه)،[٢][٣] ولقد ظهرت الحكمة في حياة لقمان الحكيم، وصفاته، وأقواله، حتى وثّق شيءٌ منها في القرآن الكريم في سورةٍ حملت اسمه أيضاً، هي سورة لقمان.
لقمان الحكيم
هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويُقال له كما قال السهليّ عن ابن جرير والقتيبيّ: لقمان بن ثاران، ولقد قال عنه السهليّ أيضاً أنّه رجل نوبيّ من أهل أيلة، يُعرف بالصلاح والعبادة والحكمة، ولقد ورد عنه أنّه كان قاضياً في زمن داود عليه السلام، لكنّه لم يكن نبياً بل حكيماً قاضياً عابداً، وسئل ذات مرةٍ عن كونه صار سيداً بين الناس محبوباً مقرّباً منهم، يجلس في أرفع المجالس، مع أنّه كان عبداً حبشياً أسوداً راعياً للغنم، فأجاب مُلخصّاً سبب ذلك: (إنّما بلغت ذلك بغضي بصري، وكفّي لساني، وعفّة مطعمي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدّتي، ووفائي بعهدي، وإكرامي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني؛ فذاك الذي صيّرني).[٣]
وصايا لقمان التربوية
ذكر الله -سبحانه- في كتابه الكريم وصايا لقمان التي علّمها لابنه وهو له مربٍّ، وهي وصايا جمعت وجوه الخير والتذكير بها والترغيب فيها، وذكرت وجوه الشر والتنفير والتخويف منها، وإنّ القارئ لوصايا لقمان لابنه لا شكّ أنّه يلمس حبّه الظاهر لابنه، وإشفاقه وحذره عليه، إذ بادر إلى جمع تلك الوصايا وتلقينها له، رغبةً منه أن يسمع تلك المواعظ فتصبح قبلةً وعادةً يعتادها في حياته، وفيما يأتي ذكر الوصايا مع شيءٍ من التفصيل:[٤]
- الوصية الأولى: وهي الأهم على الإطلاق، وهي التحذير من الإشراك بالله -سبحانه- وجعل أندادٍ له، وهو واحدٌ أحدٌ، قال الله تعالى: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)،[٥] فأولى الأعمال بالمرء أن يوحّد الله تعالى، ويفرده بالعبادة والطاعة، وتلك غاية خلق الله -تعالى- للناس.
- الوصية الثانية: تنبيه لقمان لابنه بأنّ عبادة الله -تعالى- وتوحيده مقرونٌ مباشرةً ببرّ الوالدين وطاعتهما، وصلتهما والإشفاق عليهما، وفي ذلك قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)،[٦] وفي تلك الآيات والوصايا خُصّت الأم كذلك عن الأب في البرّ والصلة؛ وذلك لتعبها وجهدها الإضافي في السنوات الأولى من عمر الطفل، حملاً وإرضاعاً وسهراً وغير ذلك.
- الوصية الثالثة: وفيها حثّ لقمان لابنه على التزام أوامر الله سبحانه، ودوام مراقبته في جميع أحواله، فلا يظنّ الإنسان أنّه قد يختفي من عين الله تعالى، ومراقبته في أي حالٍ كان، قال الله -تعالى- في ذلك: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).[٧]
- الوصية الرابعة: أورد فيها لقمان الحكيم ذكر التوجّه لله -تعالى- بالعبادة والطاعة، وأداء الفرائض، ولخّص ذلك في ذكره للصلاة، قال -تعالى- على لسان لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ)،[٨] وفي الصلاة إشارةٌ لتهذيب والنفس وزكاة الأخلاق أيضاً.
- الوصية الخامسة: وقد وجّه فيها لقمان ابنه إلى المبادرة والمداومة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع فضل ذلك وعودته بالخير على المجتمع من حوله، فإنّ ذلك يعود بالخير والنفع على صاحبه أيضاً، فمن يأمر بالمعروف يحبّه ويألفه ويأتيه، ومن ينهى عن منكر، يبغضه وينفر منه فلا يأتيه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحمّلٌ للمسؤولية تجاه المجتمع، وإبداء رغبةٍ حقيقيةٍ في الإصلاح والاستقامة فيه، وتلك إحدى الغايات التي رغب لقمان أن يغرسها في نفس ابنه، حيث قال الله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور).[٨]
- الوصية السادسة: في هذه الوصية حذّر لقمان ابنه من المشي بين الناس متكبراً مغروراً، قال الله تعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)،[٩] وكان التنفير من هذه العادة السيئة بتشبيهها القبيح؛ فالصعر هو مرض يصيب الإبل فتُلوى عنقها بسببه، فكأنّ المتكبّر حين يشيح بوجهه عن الناس تكبراً أصابه هذا الداء فأثّر فيه، والمتكبّر ممقوتٌ لا يحبّه الناس، ولا يحبّه الله تعالى، فعلى الإنسان أن يتخلّص من هذا الطبع السيء، ويتواضع للناس، ويقترب منهم حتى يحبّهم ويحبّونه.
- الوصية السابعة: لم يغفل لقمان أن يوصي ابنه أن يكون متوسّطاً معتدلاً في جميع شؤون حياته، فقال الله -تعالى- في ذلك: (واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ).[١٠]
- الوصية الثامنة: جاءت خاتمة الوصايا التربوية لزيادة ثقة المرء بنفسه، وذلك بخفض صوته حين يتكلّم، ونفّره من سوء الأدب ورفع الصوت في الحديث، فإنّ في ذلك دلالة على ضعف الحُجّة أمام المستمع، فيُرفع الصوت رغبةً بتغطية الحجج الواهية من لدن المتكلّم، وفي الوصية وصية أخرى ضمنية، وهي الحث على الترويّ والتثبّت من الكلام قبل التحدّث به فذلك يوصل المرء إلى الثقة بالنفس والهدوء في الحديث أكثر وأكثر، قال الله تعالى: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).[١٠]
المراجع
- ↑ "معنى كلمة الحكمة"، www.almaany.com، اطّلع عليه بتاريخ 2018-8-28. بتصرّف.
- ↑ رواه أحمد شاكر، في مسند أحمد، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم: 8/14، إسناده صحيح.
- ^ أ ب "قصة لقمان"، www.library.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2018-8-28. بتصرّف.
- ↑ "وصايا لقمان التربوية"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 2018-8-28. بتصرّف.
- ↑ سورة لقمان، آية: 13.
- ↑ سورة لقمان، آية: 14.
- ↑ سورة لقمان، آية: 16.
- ^ أ ب سورة لقمان، آية: 17.
- ↑ سورة لقمان، آية: 18.
- ^ أ ب سورة لقمان، آية: 19.