قال الله تعالي: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ َ) (الجمعة:10)
- عن أبي عبد الله الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لأن يأخذ أحدثكم أحبُلةُ ثم يأتي الجبل ، فيأتي يحُزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجههُ، خير له من أن يسأل الناس، اعطوه أو منعوه)) رواه البخاري.
- وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لأن يحتطب أحدكم حُزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحداً، فليعطيه أو يمنعهُ")) متفق عليه.
- وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)) رواه البخاري.
- وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان زكريا عليه السلام نجاراً")) رواه مسلم.
- وعن المِقدامِ بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكُل من عمل يديه، وإن نبي الله داود صلى الله عليه وسلم كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري.
الشرح:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب قبول الإنسان ما يعطى من غير أن يكون له تطلع إليه، وهذا معنى الترجمة.
يعني أن الإنسان لا ينبغي له أن يعلق نفسه بالمال فيتطلع إليه أو يسأل ، لأن ذلك يؤدي إلى ألا يكون له هم الدنيا، والإنسان إنما خلق في الدنيا من أجل الآخرة، قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) وقال تعالى(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (16)( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:16،17) .
فلا ينبغي للإنسان أن يعلق نفسه بالمال ولا يهتم به. إن جاءه من غير تعب ولا سؤال ولا استشراف نفس فيقبله، وإلا فلا.
ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيه العطاء فيقول : أعطه من هو أفقر مني فيقول له الرسول عليه الصلاة والسلام : (( خذه؛ إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، فتموله فإن شئت كله، وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك)).
فكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يسأل أحداً شيئاً، وإذا جاءه شيء من غير سؤال قبله، وهذا غاية ما يكون من الأدب، إلا تذل نفسك بالسؤال، ولا تستشرف للمال وتعلق قلبك به.
وإذا أعطاك أحد شيئاً فاقبله؛ لأن رد العطية والهدية قد يحمل من أعطاك على كراهيتك فيقول: هذا الرجل استكبر، هذا الرجل عنده غطرسة، وما أشبه ذلك.
فالذي ينبغي أن من يعطيك تقبل منه ولكن لا تسأل ، إلا إذا كان الإنسان يخشى ممن أعطاه أن يمنَّ به عليه في المستقبل فيقول: أنا أعطيتك، أنا فعلت معك كذا وكذا وما أشبه ذلك، فهنا يرده؛ لأنه إذا خشي أن يقطع المعطي رقبته بالمنة عليه في المستقبل؛ فليحمِ نفسه من هذا.
ثم ذكر المؤلف أنه ينبغي للإنسان أن يأكل من عمل يده ويتعفف عن السؤال، وأن يكتسب ويتجر؛ لقول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ) (الملك:15) إي في أنحائها:( وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) إي ابتغوا الرزق من فضل الله عز وجل.
وقال الله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة:10) فقال : انتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله.
ولكن لا ينسينك ابتغاؤك من فضل الله ذكر ربك، ولهذا قال:(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
ثم ذكر رحمه الله ما ثبت في صحيح البخاري، أن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يديه، وكان داود يصنع الدروع كما قال الله تعالى (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الانبياء:80) ، فكان حداداً.
أما زكريا فكان نجاراً يعمل وينشر ويأخذ الأجرة على ذلك.
وهذا يدل على أن العمل والمهنة ليست نقصا؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يمارسونها، ولا شك أن هذا خيرٌ من سؤال الناس، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((لأن يأخذ أحدكم حزمة من حطب على ظهره فيبيعها)) يعني ويأخذ ما كسب منها: ((خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)).
ولا شك أن هذا هو الخلق النبيل؛ إلا يخضع الإنسان لأحد، ولا يذل له، بل يأكل من كسب يده، من تجارته أو صناعته أو حرثه. قال تعالى :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )(المزمل:20) ولا يسأل الناس شيئاً ، والله الموفق.