القدوة الحسنة
أرسل الله تعالى الرسل للبشرية مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب والبيّنات، وبيّن لهم منهج الدعوة وطرائقها، فأدّوا الرسالة وبلّغوا الأمانة، ولمّا كانت الدّعوة الإسلامية آخر رسالةٍ إلهيةٍ، وكتب الله على رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- الموت كانت الأمّة مكلّفةً بحمل الرسالة وتبليغها للناس من بعده، وقد نشط أهل العلم في بيان أساليب الدعوة المؤثرة، وأوضحوا الصفات الواجب توفّرها في الداعية إلى الله، واستنبطوا ذلك من سير الأنبياء والرسل وحالهم مع أقوامهم، ولعلّ السيرة الدّعوية للنبي القائد -عليه السلام- كانت أقرب مثالٍ وأفضل شاهدٍ على تلك الصفات، والمستقرء لمنهج رسول الله -عليه السلام- في الدعوة يجد أنّ منهج القدوة قد شكّل أصلاً أصيلاً في تربية الناس على العقيدة السليمة والعبادة الصحيحة والأخلاق القويمة، ويظهر السؤال عن أهمية هذا المنهج في إحداث التأثير في المدعوين، وعن موقف الشرع الحكيم من مخالفة الداعية لما يدعو الناس إليه، خاصةً مع كثرة وسائل الإعلام ووسائل الاتصال التي كشفت للنّاس عن عددٍ كبيرٍ من الدّعاة وأصحاب المواعظ.
لا تنه عن خُلقٍ وتأتي مثله
حضّ الإسلام المسلمين على التزام الصدق والتحلي به في أحوالهم ومواقفهم كلّها، ولعلّ نهي الإنسان عن خُلقٍ وإتيانه أمرٌ منافٍ للصدق، وقد وضّح العلماء الموقف ممّن يعظِ النّاس بما لا يفعله، وبيانه على النحو الآتي:
- لقد شنّع القرآن الكريم على أولئك الذين يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه، وينهوهم عن الشر وهم واقعون فيه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)،[١] وأهل الإيمان لا تليق بهم هذه الحالة المذمومة؛ إذ الأصل بمن يأمر بالمعروف أن يكون أولى الناس بالتزامه، والناهي عن المنكر أبعد ما يكون عنه، والآية وإن كانت قد نزلت فيمن قالوا لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا بها، فلما علموا لم يعملوا فجاءهم التوبيخ من الله، إلا أنّ العبرة في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي تدل كذلك على كلّ من يأمر بالمعروف ولا يأتيه، أو ينهى عن المنكر ويأتيه، وفي هذا يقول الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).[٢][٣][٤] وحال الأنبياء مع أقوامهم هو المنهج القويم لكلّ من تولّى مهمّة الدعوة والنصح، وقد سطّر القرآن الكريم منهج القدوة في الدعوة على لسان شعيب -عليه السلام- وهو يحاجج قومه،في قوله تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ)،[٥][٦]
- وفي الشعر العربي ما يؤكد على أنّ المجتمع يرفض دعوة الداعية ما لم يلتزم بها في نفسه قبل مدعوّيه، يقول أبو الأسود الدؤلي:[٧]
- لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ ،،، عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتَ عَظيمُ
- ابدأ بِنَفسِكَ وَانَها عَن غِيِّها ،،، فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ
- فَهُناكَ يُقبَل ما وَعَظتَ وَيُقتَدى ،،، بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَعُ التَعليمُ.
- أجاب العلماء عن سؤال بالغ الأهمية في مجاله، وهو: هل يلزم من لا يأتمر بما يدعو إليه أن ترك النصح والدعوة؟ فكانت خلاصة القول في المسألة على النحو الآتي:[٦]
- الرأي الأول: أنه لا يقبل منه الدعوة إلى الله في حالة عدم امتثاله لما يأمر به وينهى عنه، واستندوا إلى الآيات السابق ذكرها، وأوّل بعض أهل العلم أنّ النهي والذمّ هنا منصرف إلى ترك العمل بما يدعو إليه، لا على أمرهم بالخير مع تركه له، فالأمر بالمعروف معروف، ولكن الأولى بالعالم أن لا يتخلّف عن فعله.
- الرأي الثاني: أنّه لا يشترط ترك الدعوة إلى الله لمن كانت حاله بالوصف السابق؛ فقد قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحدٌ بمعروفٍ ولا نهى عن منكرٍ؛ لذا فإنّ كلاً من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ لا يسقط أحدهما بترك الآخر.
أثر التزام الداعية بما يدعو
لقد شكّل منهج القدوة في الحياة الدعوية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، دافعاً للإقبال والاستقامة على أمر الدين، وهذا يؤكّد أنّ التزام الداعية بما يدعو إليه له بالغ الأثر فيهم، فمن آثاره:[٨]
- إنّ حاجة الناس إلى قدوةٍ يحتذون حذوها أقرب ما تكون إلى الطبع؛ فالمرء يندفع برغبةٍ قد لا يشعر بها نحو تقليد من ينال إعجابه في سلوكه وعاداته وممارساته وأسلوبه؛ ولذلك كانت القدوة الحسنة في الإسلام وسيلةً للترقي بالمجتمع المسلم في قيمه وأخلاقه وسلوكه.
- تأثير القدوة الحسنة ينتقل من الداعية إلى المدعو، سواء كان التأثير مقصوداً أو عفوياً، وهذه الميزة تمنح أسلوب الدعوة بالقدوة الاستمرارية في التأثير، الأمر الذي يجعل الدّاعية يحاسب ويراقب سلوكياته بشكلٍ مستمرٍّ.
- القدوة الحسنة دعوةٌ غير مباشرةٍ، وهي بهذا المعنى توافق أطباع المدعوين الذين يرفضون النصح المباشر والدعوة بالموعظة، بينما تشكّل القدوة الحسنة دعوةً عمليةً نافذةً إلى قلوب هؤلاء، فربما كانت سبباً في هدايتهم واستقامتهم على الحقّ دون مؤثرٍ خارجيٍّ مباشرٍ.
- القدوة الحسنة بالتزام الداعية بدعوته تجاوزٌ لحدود اللغة، وهي بذلك تمتاز عن الدعوة المباشرة؛ لأنّ مستويات الفهم للكلام عند الناس متفاوتة، بينما يتساوى غالبية الناس في إدراكهم للمثال الحيّ المشاهد أمامهم، فيكون شاهد الحال أبلغ وأعمق تأثيراً من شاهد المقال.
- القدوة الصادقة تقع في نفوس الناس موقع الرضا، وهذا بلا شك له أثره البالغ في قبول الدعوة، فهي تدلّ على صدق الداعي، ومدى إيمانه بما يدعو إليه، والناس في هذا العصر أحوج إلى الدعوة العملية والنماذج الفاضلة من غيرها.
المراجع
- ↑ سورة الصف، آية: 2-3.
- ↑ سورة البقرة، آية: 44.
- ↑ مركز الفتوى (8-3-2009)، "يعظ الناس بما لا يفعله وهو ينوي القيام به"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 2-5-2018. بتصرّف.
- ↑ مركز الفتوى (5-9-2004)، "تفسير (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون)"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 3-5-2018. بتصرّف.
- ↑ سورة هود، آية: 88.
- ^ أ ب مركز الفتوى (1-7-2002)، "المرء يأمر بالمعروف وإن لم يفعله"، www.islamweb.net، اطّلع عليه بتاريخ 3-5-2018. بتصرّف.
- ↑ أبو الأسود الدؤلي، "حَسَدوا الفَتى إِذ لَم يَنالوا سَعيهُ"، www.adab.com، اطّلع عليه بتاريخ 3-5-2018.
- ↑ هند شريفي (1-3-2016)، "أثر القدوة وأهميتها في الدعوة إلى الله"، www.alukah.net، اطّلع عليه بتاريخ 3-5-2018. بتصرّف.