استقبال يوم عرفة
تختلف أحوال الناس في استقبال يوم عرفة، والاستعداد للعمل الصالح فيه؛ فبعض الناس لا يختلف حاله في يوم عرفة عن بقيّة الأيام، ولا يزداد فيه من الطاعات، وهذا الصنف من الناس قد ظلم نفسه بتقصيره في هذا اليوم المشهود، والبعض الآخر من الناس يكون مقتصداً في استقبال يوم عرفة؛ فيصوم نهاره، ويدعو الله -تعالى- في آخر ساعاته، وأمّا أفضل النّاس في يوم عرفة؛ فهم السابقون بالخيرات؛ الذين يستعدّون لهذا اليوم العظيم مبكّراً، ويخطّطون لاستغلاله بالطاعات؛ فيشتغلون بدعاء الله -تعالى- وذكره من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، وقد يجتمعون مع أصحابهم، وجيرانهم على طاعة الله -تعالى-، وعمل الأعمال الصالحة، ثم يفطرون جميعاً، والمسلم يحسن الظن بالله -تبارك وتعالى- في هذا اليوم، ويوقن بقبول الله -تعالى- له.[١]
ويقول سفيان بن عيينة: وقفت في عرفة ثمانين مرّة، وكنت أدعو الله -تعالى- في كل موقف ألّا يجعله آخر العهد به؛ وذلك لشدّة شوقه، وحبّه لطاعة الله -تعالى-، وقد استجاب الله -تعالى- دعاءه، ولم يحرمه من الوقوف بعرفة؛ فلمّا بلغ العام الذي توفي فيه لم يدع الله -تعالى- بشيء؛ فسُئِل عن ذلك فقال: قد استحييت من الله -تبارك وتعالى-.[١]
تاريخ يوم عرفة
يأتي يوم عرفة في التاسع من شهر ذي الحجة،[٢] وشهر ذو الحجة هو الشهر الثاني عشر من أشهر السنة القمريّة، وهو من الأشهر الحرم، وسمّي بهذا الاسم لوقوع فريضة الحجّ فيه،[٣] وقد بيَّن النبي- صلى الله عليه وسلم- في حجّة الوداع أن أشهر الحجّ قد استقرّت، وثبتت في موضعها الذي جعلها الله -تعالى- فيه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ).[٤][٥]
وكان العرب في الجاهلية قد بدَّلوا الأشهر الحرم، وغيّروا موضعها؛ فكانوا يستحلّون شهراً منها، ويحرّمون شهراً آخر مكانه، وهذا هو "النسيء" الذي ذكره الله -تعالى- في القرآن الكريم؛ فقال: (إِنَّمَا النَّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفرِ)،[٦] والمراد بالنسيء؛ تأخير تحريم شهر رجب إلى شهر شعبان، أو تأخير تحريم شهر محرّم إلى شهر صفر، وقد استمرّ حال العرب في تأخير الأشهر الحرم حتّى خرج حسابه من أيديهم؛ فلمّا قام الإسلام واستقرّ الحج في موضعه المشروع، وذلك في العام الذي حجّ فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- حجّة الوداع.[٥]
أعمال الحج في يوم عرفة
ينطلق الحاجّ في التاسع من ذي الحجة إلى موقف عرفة ليقف فيه؛ فإذا وصله صلّى فيه الظهر، والعصر مع إمامه جمع تقديم وبقصر الصلاتين، ثم يشتغل بدعاء الله -تعالى- وذكره، ومن ذلك ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أَنا والنَّبيُّونَ من قبلي: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولَهُ الحمدُ وَهوَ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ)،[٧] ويعدّ الوقوف بعرفة ركن الحج الأكبر، والذي لا يصحّ الحجّ إلّا بفعله،[٨] ويبدأ الوقوف بعرفة عند زوال شمس اليوم التاسع من ذي الحجة، ويستمرّ الوقوف بعرفة إلى طلوع فجر اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم النحر، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ وقوف الحاجّ في غير هذا الوقت مبطلٌ لوقوفه، ولا يعتدّ به شرعاً.[٩]
فضل يوم عرفة
يختصّ يوم عرفة بفضائل عديدة خصّه الله -تعالى- بها، ومن هذه الفضائل ما يأتي:[١٠]
- اليوم الذي أكمل الله -تعالى- فيه الدين، وأتمّه به، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنّ رجلاً من غير المسلمين جاءه فقال: (يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا، لو عَلَيْنَا نَزَلَتْ، مَعْشَرَ اليَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذلكَ اليومَ عِيدًا، قالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قالَ: {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا}، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي لأَعْلَمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكانَ الذي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بعَرَفَاتٍ في يَومِ جُمُعَةٍ).[١١]
- اليوم الذي تغفر فيه الذنوب، وهو يوم العتق من النيران، فهو أكثر يوم يعتق الله -تعالى- فيه عباده من النار، وفيه يتباهى الله -تعالى- أمام ملائكته بعباده المؤمنين؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمِ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟).[١٢]
- اليوم الذي يعدّ يوم الحجّ الأكبر، ومقصوده الأعظم؛ فعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الحجُّ عرفاتٌ).[١٣]
- يوم عيد وسرور للحجّاج الواقفين فيه، ولجميع المسلمين؛ فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: (يومُ عرفةَ ويومُ النحرِ وأيامُ التشريقِ عيدنا أهلَ الإسلامِ ، وهيّ أيامُ أكلٍ وشربٍ).[١٤][١٥]
- اليوم الذي أقسم الله -تعالى- فيه بكتابه الكريم؛ فقال -سبحانه- في سورة البروج: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)،[١٦] وقد بيَّن النبي- صلى الله عليه- أن اليوم المشهود هو يوم عرفة، قال -عليه السلام-: (اليومُ الموعودُ يومُ القيامةِ ، واليومُ المشهودُ يومُ عرفةَ ، والشاهدُ يومُ الجُمُعةِ).[١٧][١٥]
- اليوم الذي صيامه يكفّر ذنوب السنة الماضية، ويكفّر السنة القادمة؛ فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ؟ فَقالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).[١٨][١٥]
- اليوم الذي أخذ الله -تعالى- فيه الميثاق من ذرية آدم -عليه السلام-؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أخذَ اللَّهُ الميثاقَ من ظَهْرِ آدمَ بنُعمانَ - يعني عرفةَ - فأخرجَ مِن صلبِهِ كلَّ ذرِّيَّةٍ ذرأَها ، فنثرَهُم بينَ يديهِ كالذَّرِّ ، ثمَّ كلَّمَهُم قبلًا قالَ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ).[١٩][١٥]
المراجع
- ^ أ ب خالد أبو شادي، أحلى 13 يوم، الرياض: طيبة، صفحة 50-51. بتصرّف.
- ↑ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (2006)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الأولى)، الكويت: طبع الوزارة، صفحة 337، جزء 45. بتصرّف.
- ↑ محمد قلعجي، حامد صادق قنيبي (1988)، معجم لغة الفقهاء (الطبعة الثانية)، الأردن: دار النفائس، صفحة 215. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبو بكرة نفيع بن الحارث، الصفحة أو الرقم: 5550، صحيح.
- ^ أ ب البغوي (1983)، شرح السنة (الطبعة الثانية)، دمشق: المكتب الإسلامي ، صفحة 221، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ سورة التوبة، آية: 37.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الترمذي، عن جد عمرو بن شعيب، الصفحة أو الرقم: 3585، حسن.
- ↑ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 342، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (1990)، الموسوعة الفقهية الكويتية (الطبعة الثانية)، الكويت: ذات السلاسل، صفحة 49-50، جزء 17. بتصرّف.
- ↑ عبدالكريم العمري (2001)، تسهيل المناسك (الطبعة الأولى)، المدينة المنورة: دار المآثر، صفحة 77-79. بتصرّف.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب، الصفحة أو الرقم: 3017، صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم: 1348 ، صحيح.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي، الصفحة أو الرقم: 2975، حسن صحيح.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عقبة بن عامر، الصفحة أو الرقم: 773، حسن صحيح.
- ^ أ ب ت ث محمد صالح المنجد (23-10-2011)، "فضائل يوم عرفة"، islamstory.com، اطّلع عليه بتاريخ 28-7-2020. بتصرّف.
- ↑ سورة البروج، آية: 3.
- ↑ رواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 8201، صحيح.
- ↑ رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن أبو قتادة الحارث بن ربعي، الصفحة أو الرقم: 1162، صحيح.
- ↑ رواه أحمد بن حنبل، في مسند أحمد، عن عبدالله بن عباس، الصفحة أو الرقم: 4/151، إسناده صحيح.